البشرية كضيف إبراهيم ولوط وخصم داود عليهم السلام وغير ذلك وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية فما ظنك بمن عداهم من العوام فلو شاهدوه كذلك لقضي امر هلاكهم بالكلية واستحال جعله نذيرا وهو مع كونه خلاف مطلوبهم مستلزم لإخلاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة من إرسال الرسل وتأسيس الشرائع وقد قال سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفيه كما ترى إيذان بأنهم في ذلك الاقتراح كالباحث عن حتفه بظلفه وأن عدم الإجابة إليه للبقيا عليهم وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة ثم في قوله تعالى «ثم لا ينظرون» أي لا يمهلون بعد نزوله طرفة عين فضلا عن أن ينذروا به كما هو المقصود بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاء الأمر وعدم الإنظار فإن مفاجأة العذاب أشد من نفس العذاب وأشق وقيل في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم وقيل أنهم إذا رأوه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف فيجب إهلاكهم وإلى الثاني بقوله تعالى «ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا» على أن الضمير الأول للنذير المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال لو جعلناه نذيرا لجعلناه رجلا مع فهم المراد منه أيضا لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر ولا ريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت امتناعية أريد بها بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبانة لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول والمعنى لو جعلنا النذير الذي اقترحوه ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لما مر من عدم استطاعة الآحاد لمعاينة الملك على هيكله وفي إيثار رجلا على بشرا إيذان بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل وقوله تعالى «وللبسنا عليهم» عطف على جواب لو مبني على الجواب الأول وقرئ بحذف لام الجواب اكتفاء بما في المعطوف عليه يقال لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهته وجعلته مشكلا وأصله الستر بالثوب وقرئ الفعلان بالتشديد للمبالغة أي ولخلطنا عليهم بتمثيله رجلا «ما يلبسون» على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له إنما أنت بشر ولست بملك ولو استدل على ملكيته بالقرآن المعجز الناطق بها أو بمعجزات أخر غير ملجئة إلى التصديق لكذبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول والتعبير عن تمثيله تعالى رجلا باللبس إما لكونه في سوء اللبس
(١١٣)