" وعندهم التوراة فيها حكم الله " المائدة: 43، وقد نزلت التوراة بعد غرق فرعون وإنجاء بني إسرائيل.
فمن الممكن أن يقال: إن موسى عليه السلام أعطي مراتب من الحكم بعضها فوق بعض قبل قتل القبطي وبعد الفرار قبل العود إلى مصر وبعد غرق فرعون، وقد خصه الله في كل مرة بمرتبة من الحكم حتى تمت له الحكمة بنزول التوراة، وهذا بحسب التمثيل نظير ما يرزق بعض الناس أو ان صباه سلامة في فطرته قلما يميل معها طبعه إلى الشر والفساد ثم إذا نشأ يعطي اعتدالا في التعقل وجودة في التدبير فينبعث إلى اكتساب الفضائل فيرزق ملكة التقوى والصفات الثلاث في الحقيقة سنخ واحد ينمو ويزيد حالا بعد حال.
ويظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم الحكم بالنبوة لعدم دليل عليه من جهة اللفظ ولا المقام.
على أن الله سبحانه ذكر الحكم والنبوة في مواضع من كلامه وفرق بينهما كقوله:
" أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة " آل عمران: 79، وقوله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " الانعام: 89، وقوله: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " الجاثية: 16 إلى غير ذلك.
وقوله: " وجعلني من المرسلين " جواب عن الاعتراض الأول وهو استغراب رسالته واستبعادها وهم يعرفونه، وقد شاهدوا أحواله حينما كانوا يربونه فيهم وليدا ولبث فيهم من عمره سنين، وتقريره أن استغرابهم واستبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا يمكن أن يحدس به أو يتوقع حصوله بحصول مقدماته الاختيارية، وليس الامر كذلك بل هي أمر وهبي لا تأثير للأسباب العادية فيها وقد جعله الله من المرسلين كما وهب له الحكم بغير اكتساب هذا ما يعطيه التدبر في السياق.
وأما ما ذكروه من أن قوله: " ألم نربك فينا وليدا " الخ، مسوق للمن على موسى عليه السلام دون الاستغراب والاستبعاد كما ذكرناه، فالآية في نفسها وإن لم تأب الحمل على ذلك لكن سياق مجموع الجواب لا يساعد عليه، وذلك أن فيه إفساد السياق