ولعل الوجه في ذلك أن الأمور المذكورة في الآية الأولى وهى الشرك بالله العظيم وعقوق الوالدين وقتل الأولاد من إملاق وقربان الفواحش الشنيعة وقتل النفس المحترمة من غير حق مما تدرك الفطرة الانسانية حرمتها في بادئ نظرها ولا يجترئ عليها الانسان الذي يتميز من سائر الحيوان بالعقل إلا إذا اتبع الأهواء وأحاطت به العواطف المظلمة التي تضرب بحجاب ثخين دون العقل. فمجرد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة والخروج عن خالصة الأهواء يكشف للانسان عن حرمتها وشآمتها على الانسان بما هو إنسان، ولذلك ختمت بقوله: (ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون).
وما ذكر منها في الآية الثانية وهى الاجتناب عن مال اليتيم، وإيفاء الكيل والميزان بالقسط، والعدل في القول، والوفاء بعهد الله أمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الأولى من الظهور بل يحتاج الانسان مع تعبيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكر وهو الرجوع إلى المصالح والمفاسد العامة المعلومة عند العقل الفطري حتى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعه المشرفة به وبسائر بنى نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير في مجتمع إنساني لا يرحم فيه الصغير والضعيف، ويطفف فيه الكيل والوزن، ولا يعدل فيه في الحكم والقضاء، ولا يصغى فيه إلى كلمة الحق، ولهذه النكتة ختمت الآية بقوله:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).
والغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهى عن التفرق والاختلاف في الدين باتباع سبل غير سبيل الله، واتباع هاتيك السبل من شأنه أن التقوى الديني لا يتم إلا بالاجتناب عنه.
وذلك أن التقوى الديني إنما يحصل بالتبصر في المناهى الإلهية والورع عن محارمه بالتعقل والتذكر، وبعبارة أخرى بالتزام الفطرة الانسانية التي بنى عليها الدين، وقد قال تعالى: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) (الشمس: 8) وقد وعد الله المتقين إن اتقوا يمددهم بما يتضح به سبيلهم ويفرق به بين الحق والباطل عندهم فقال: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) (الطلاق: 2) وقال: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) (الأنفال: 29).
فهو على صراط التقوى ما دام ملازما لطريق التعقل والتذكر جاريا على مجرى الفطرة، وإذا إنحرف إلى الخارج من هذا الصراط وليس إلا اتباع الأهواء والاخلاد إلى