قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بي حفيا) (مريم: 47) أنه عليه السلام كان على علم بحقيقة الامر وأن الذي يتولى تدبير أمره ويخفى عليه ويبالغ في إكرامه هو الله سبحانه دون غيره.
وعلى هذا فقوله: (هذا ربى) جار مجرى التسليم والمجاراة بعد نفسه كأحدهم ومجاراتهم وتسليم ما سلموه ثم بيان ما يظهر به فساد رأيهم وبطلان قولهم، وهذا الطريق من الاحتجاج أجلب لانصاف الخصم، وأمنع لثوران عصبيته وحميته، وأصلح لاسماع الحجة.
قوله تعالى: (فلما أفل قال لا أحب الآفلين) الأفول الغروب وفيه أبطال ربوبية الكوكب بعروض صفة الأفول له فإن الكوكب الغارب ينقطع بغروبه ممن طلع عليه ولا يستقيم تدبير كونى مع الانقطاع.
على أن الربوبية والمربوبية بارتباط حقيقي بين الرب والمربوب وهو يؤدى إلى حب المربوب لربه لانجذابه التكويني إليه وتبعيته له، ولا معنى لحب ما يفنى ويتغير عن جماله الذي كان الحب لأجله، وما يشاهد من أن الانسان يحب كثيرا الجمال المعجل والزينة الداثرة فإنما هو لاستغراقه فيه من غير أن يلتفت إلى فنائه وزواله فمن الواجب أن يكون الرب ثابت الوجود غير متغير الأحوال كهذه الزخارف المزوقة التي تحيا وتموت وتثبت وتزول وتطلع وتغرب وتظهر وتخفى وتشب وتشيب وتنضر وتشين، وهذا وجه برهاني وان كان ربما يتخيل انه بيان خطابي أو شعري فافهم ذلك.
وعلى أي حال فهو عليه السلام أبطل ربوبية الكوكب بعروض الأفول له إما بالتكنية عن البطلان بأنه لا يحبه لأفوله لان المربوبية والعبودية متقومة بالحب فليس يسع من لا يحب شيئا أن يعبده وقد ورد في المروى عن الصادق عليه السلام: (هل الدين إلا الحب؟) وقد بينا ذلك فيما تقدم.
وإما لكون الحجة متقومة بعدم الحب وإنما ذكر الأفول ليوجه به عدم حبه له المنافى للربوبية لان الربوبية والألوهية تلازمان المحبوبية فما لا يتعلق به الحب الغريزى