وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه، وانه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحكم بينهم على الهوى ورعاية جانب الأقوياء وهو حكم الجاهلية، ومن أحسن حكما من الله لقوم يوقنون؟ وبذلك يتأيد ما ورد في أسباب النزول ان الآيات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، وأراد أحبارهم ان يبدلوا حكم الرجم الذي في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم زنا المحصن، ووصوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، وان حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجم فتولوا عنه فسأل صلى الله عليه وآله وسلم ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك وأقسمه بالله وآياته ان لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن حكم الرجم موجود في التوراة (القصة) وسيجئ في البحث الروائي الآتي إنشاء الله تعالى.
والآيات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول، وهذا شأن الآيات القرآنية مما نزلت لأسباب خاصة من الحوادث الواقعة، ليس لأسباب نزولها منها إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، وليس إلا لان القرآن كتاب عام دائم لا يتقيد بزمان أو مكان، ولا يختص بقوم أو حادثة خاصة، وقال تعالى: " ان هو إلا ذكر للعالمين " (يوسف: 104) وقال تعالى: " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " (الفرقان: 1) وقال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (فصلت: 42).
قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه مما لقى من هؤلاء المذكورين في الآية، وهم الذين يسارعون في الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة، ويسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من أفعالهم وأقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم والمسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر.
وقوله: " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين، وفى وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهى كما أن الاخذ بالوصف السابق أعني قوله: " الذين يسارعون في الكفر " للإشارة إلى علة المنهى عنه، والمعنى - والله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنهم