أول كينونته صفر الكف من هذه العلوم والمعارف الوسيعة حتى تشعر قواه الداخلة بحوائجها، وتقترح عليه ما تشتهيها وتطلبها، وهذه الشورات الابتدائية هي مبادئ علوم الانسان ثم لا يزال الانسان يعمم ويخصص ويركب ويفصل حتى يتم له أمر الأفكار الانسانية.
ومن هنا يحدس اللبيب ان توغل الانسان في طاعة قوة من قواه المتضادة وإسرافه في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في أفكاره ومعارفه بتحكيم جميع ما تصدقه هذه القوة على ما يعطيه غيرها من التصديقات والأفكار وغفلته عما يقتضيه غيرها.
والتجربة تصدق ذلك فإن هذا الانحراف هو الذي نشاهده في الافراد المسرفين المترفين من حلفاء الشهوة، وفى البغاة الطغاة الظلمة المفسدين أمر الحياة في المجتمع الانساني فإن هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على لذائذ الشرب والسماع والوصال لا يكادون يستطيعون التفكر في واجبات الانسانية، ومهام الأمور التي يتنافس فيها أبطال الرجال وقد تسربت روح الشهوة في قعودهم وقيامهم واجتماعهم وافتراقهم وغير ذلك، وكذلك الطغاة المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتى لهم ان يتصوروا رأفة وشفقة ورحمة وخضوعا وتذللا حتى فيما يجب فيه ذلك، وحياتهم تمثل حالهم الخبيث الذي هم عليه في جميع مظاهرها من تكلم وسكوت ونظر وغض وإقبال وإدبار، فهؤلاء جميعا سالكو طريق الخطأ في علومهم، كل طائفة منهم مكبة على ما تناله من العلوم والأفكار المحرفة المنحرفة المتعلقة بما عنده، غافلون عما وراءه، وفيما وراءه العلوم النافعة والمعارف الحقة الانسانية فالمعارف الحقة والعلوم النافعة لا تتم للانسان إلا إذا صلحت أخلاقه وتمت له الفضائل الانسانية القيمة، وهو التقوى.
فقد تحصل ان الأعمال الصالحة هي التي تحفظ الأخلاق الحسنة، والأخلاق الحسنة هي التي تحفظ المعارف الحقة والعلوم النافعة والأفكار الصحيحة، ولا خير في علم لا عمل معه.
وهذا البحث وإن سقناه سوقا علميا أخلاقيا لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلا أنه هو الذي جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال: " واقصد في مشيك " (لقمان: 19) فإنه كناية عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، وقال: " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " (الأنفال:
29) وقال: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب " (البقرة: 197)، أي لأنكم أولوا الألباب تحتاجون في عمل لبكم إلى التقوى والله أعلم، وقال تعالى: " ونفس