طبيعة خامسة، واستحالة الخرق والالتيام فيها، وقدم الأفلاك والفلكيات بالشخص وقدم العناصر بالنوع، وقدم الأنواع ونحو ذلك فإنها مسائل مبنية على أصول موضوعة لم يبرهن عليها في الفلسفة لكن الجهلة من المنفلسفين كانوا يظهرونها في زي المسائل المبرهن عليها، وكانت الدهرية وأمثالهم وهم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك أمورا أخرى من أباطيلهم كالقول بالتناسخ ونفى المعاد ولا سيما المعاد الجسماني، ويطعنون بذلك كله في ظواهر الدين وربما قال القائل منهم: إن الدين مجموع وظائف تقليدية أتى بها الأنبياء لتربية العقول الساذجة البسيطة وتكميلها، وأما الفيلسوف المتعاطي للعلوم الحقيقية فهو في غنى عنهم وعما أتوا به، وكانوا ذوي أقدام في طرق الاستدلال.
فدعا ذلك الفقهاء والمتكلمين وحملهم على تجبيههم بالانكار والتدمير عليهم بأي وسيلة تيسرت لهم من محاجة ودعوة عليهم وبراءة منهم وتكفير لهم حتى كسروا سورتهم وفرقوا جمعهم وأفنوا كتبهم في زمن المتوكل، وكادت الفلسفة تنقرض بعده حتى جدده ثانيا المعلم الثاني أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 339 ثم بعده الشيخ الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 428 ثم غيرهما من معاريف الفلسفة كأبى على بن مسكويه وابن رشد الأندلسي وغيرهما، ثم لم تزل الفلسفة تعيش على قلة من متعاطيها وتجول بين ضعف وقوة.
وهى وإن انتقلت ابتداء إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلا الشاذ النادر كالكندي وابن رشد، وقد استقرت أخيرا في إيران، والمتكلمون من المسلمين وإن خالفوا الفلسفة وأنكروا على أهلها أشد الانكار لكن جمهورهم تلقوا المنطق بالقبول فألفوا فيها الرسائل والكتب لما وجدوه موافقا لطريق الاستدلال الفطري.
غير أنهم - كما سمعت - أخطأوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقية وأجزائها مطردا في المفاهيم الاعتبارية، واستعملوا البرهان في القضايا الاعتبارية التي لا مجرى فيها إلا للقياس الجدلي فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحسن والقبح والثواب والعقاب والحبط والفضل في أجناسها وفصولها وحدودها، وأين هي من الحد؟ ويستدلون في المسائل الأصولية والمسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة والامتناع. وذلك من استخدام الحقائق في الأمور الاعتبارية ويبرهنون في أمور ترجع إلى الواجب تعالى بأنه يجب عليه كذا ويقبح منه كذا فيحكمون الاعتبارات على الحقائق، ويعدونه برهانا، وليس بحسب