وبالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا " يحرفون الكلم عن مواضعه " بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه وبإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكل ذلك من التحريف، وأفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين " ونسوا حظا مما ذكروا به " ولم يكن إلا حظا من الأصول التي تدور على مدارها السعادة، ولا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة اللازمة كقولهم بالتشبيه، وخاتمية نبوة موسى، ودوام شريعة التوراة، وبطلان النسخ والبداء إلى غير ذلك.
" ولا تزال تطلع على خائنة منهم " أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم " الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين " وقد تقدم مرارا ان استثناء القليل منهم لا ينافي ثبوت اللعن والعذاب للجماعة التي هي الشعب والأمة (1).
قوله تعالى: " ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا "، قال الراغب: غرى بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به، وأغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به.
وقد كان المسيح عيسى بن مريم نبي رحمة يدعو الناس إلى الصلح والسلم، ويندبهم إلى الاشراف على الآخرة، والاعراض عن ملاذ الدنيا وزخارفها، وينهاهم عن التكالب لأجل هذا العرض الأدنى (2) فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم والصلح حربا، وبدل المؤاخاة والموادة التي ندبوا إليها معادة ومباغضة كما يقول:
" فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ".
وهذه العداوة والبغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الأمم المسيحية وكالنار الآخرة التي لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.