وإنما الفرق بين الآيتين ان آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة لاتباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة ونحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف الحق، وهذه الآية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة لشنآن وبغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه ودحض لحقه.
وهذا الاختلاف في غرض البيان هو الذي أوجب اختلاف القيود في الآيتين: فقال في آية النساء: " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وفي آية المائدة: " كونوا قوامين لله شهداء بالقسط.
وذلك أن الغرض في آية المائدة لما كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة من الشاهد للمشهود عليه قيد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة وأن لا يشتمل على ظلم حتى على العدو بخلاف الشهادة لاحد بغير الحق لسابق حب وهوى، فإنها لا تعد ظلما في الشهادة وانحرافا عن العدل وإن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم وحيف، ولذلك أمر في آية المائدة بالشهادة بالقسط، وفرعه على الامر بالقيام لله، وأمر في آية النساء بالشهادة لله أي أن لا يتبع فيها الهوى، وفرعه على الامر بالقيام بالقسط.
ولذلك أيضا فرع في آية المائدة على الامر بالشهادة بالقسط قوله: " اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله " فدعا إلى العدل، وعده ذريعة إلى حصول التقوى، وعكس الامر في آية النساء ففرع على الامر بالشهادة لله قوله: " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " فنهى عن اتباع الهوى وترك التقوى، وعده وسيلة سيئة إلى ترك العدل.
ثم حذر في الآيتين جميعا في ترك التقوى تحذيرا واحدا فقال في آية النساء: " وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " أي إن لم تتقوا، وقال في آية المائدة:
" واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " وأما معنى القوامين لله شهداء بالقسط (الخ) فقد ظهر في الكلام على الآيات السابقة.
قوله تعالى: " اعدلوا هو أقرب للتقوى "، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه بقوله: " اعدلوا " والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم " الجملة الثانية أعني قوله: " لهم مغفرة، إنشاء للوعد الذي أخبر عنه بقوله: " وعد الله "،