واللسان لسان الامتنان، والمقام مقام التخفيف والتسهيل، فالمعنى: إنا نمتن عليكم بالتخفيف والتسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم والمحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، وهم أوتوا الكتاب وأذعنوا بالتوحيد والرسالة بخلاف المشركين والوثنيين المنكرين للنبوة، ويشعر بما ذكرنا أيضا تقييد قوله: " أوتوا الكتاب " بقوله: " من قبلكم " فإن فيه إشعارا واضحا بالخطط والمزج والتشريك.
وكيف كان لما كانت الآية واقعة موقع الامتنان والتخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (البقرة: 221) وقوله تعالى: " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " (الممتحنة: 10) وهو ظاهر.
على أن الآية الأولى واقعة في سورة البقرة، وهى أول سورة مفصلة نزلت بالمدينة قبل المائدة: وكذا الآية الثانية واقعة في سورة الممتحنة وقد نزلت بالمدينة قبل الفتح، فهى أيضا قبل المائدة نزولا، ولا وجه لنسخ السابق للاحق مضافا إلى ما ورد: أن المائدة آخر ما نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسخت ما قبلها، ولم ينسخها شئ.
على أنك قد عرفت في الكلام على قوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " الآية (البقرة: 221) في الجزء الثاني من الكتاب أن الآيتين أعني آية البقرة وآية الممتحنة أجنبيتان من الدلالة على حرمة نكاح الكتابية.
ولو قيل بدلالة آية الممتحنة بوجه على التحريم كما يدل على سبق المنع الشرعي ورود آية المائدة في مقام الامتنان والتخفيف - ولا امتنان ولا تخفيف لو لم يسبق منع - كانت آية المائدة هي الناسخة لاية الممتحنة لا بالعكس لان النسخ شأن المتأخر، وسيأتى في البحث الروائي كلام في الآية الثانية.
ثم المراد بالمحصنات في الآية: العفائف وهو أحد معاني الاحصان، وذلك أن قوله:
" والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، يدل على أن المراد بالمحصنات غير ذوات الأزواج وهو ظاهر، ثم الجمع بين المحصنات من أهل الكتاب والمؤمنات على ما مر من توضيح معناها يقضى بأن المراد بالمحصنات في الموضعين معنى واحد، وليس هو الاحصان بمعنى الاسلام لمكان قوله: والمحصنات من الذين أوتوا