هذا هو الترتيب الذي ابتدعته عقلية جبارة، عميقة الغور، دقيقة التنظيم، قد اجتمع لصاحبها من الصفات، ما لا يجتمع إلا في القليل النادر من الناس، فهو الذكي الألمعي، و هو الباحث المنقب، و هو العالم المطلع، و هو الناقد العبقري.
اطلع على كل ما تركه السابقون - و قد أنضجه الزمان، و صقلته التجربة، و محصته الاختبارات، فنفذ ببصيرته إلى لبه، و تغلغل في أعماقه، و تعرف أسراره، مراعيا القانون الجامع، ليربط به الجزئيات، و يجمع حوله الأشتات التي تربطها به رابطة من معنى، فيوصف ذلك في تقسيم واحد متفرع إلى أنواع.
هذا هو الترتيب الذي وصفه السيوطي في (التدريب) بقوله: (صحيح ابن حبان ترتيبه مخترع، ليس على الأبواب، و ليس على المسانيد، و لهذا سماه (التقاسيم و الأنواع)...) (1).
فكيف استقبل هذا الترتيب، و ماذا قال العلماء فيه؟
أول عبارة نطالعها في الحكم على أسلوب ابن حبان و ترتيبه لصحيحه - فيما اطلعنا عليه - عبارة قالها الإمام الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (2):
(و قد اعترف - يعني ابن حبان - أن صحيحه لا يقدر على الكشف منه إلا من حفظه، كمن عنده مصحف لا يقدر على موضع آية يريدها منه إلا من حفظه). و هي عبارة مبتورة، تناولها الذهبي بحذر ليجعلها دليلا على صحة حكمه.
و لعظيم مكانة الحافظ الذهبي في النفوس - و هو بها جدير - و هو