فلم يبق شئ بعد ذلك يقول فيه: أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم، لان سنة النبي صلى الله عليه وآله فعل كل واجب. وتجنب كل قبيح، فخلاهم ذم فماذا يقال؟
والجواب أن كثيرا من الصحابة كلفوا أنفسهم أمورا من النوافل شاقة جدا، فمنهم من كان يقوم الليل كله، ومنهم من كان يصوم الدهر كله، ومنهم المرابط في الثغور، ومنهم المجاهد مع سقوط الجهاد عنه لقيام غيره به، ومنهم تارك النكاح، ومنهم تارك المطاعم والملابس، وكانوا يتفاخرون بذلك، ويتنافسون فيه، فأراد عليه السلام أن يبين لأهله وشيعته وقت الوصية أن المهم الأعظم هو التوحيد، والقيام بما يعلم من دين محمد صلى الله عليه وآله أنه واجب، ولا عليكم بالاخلال بما عدا ذلك، فليت من المائة واحدا نهض بذلك، والمراد ترغيبهم بتخفيف وظائف التكاليف عنهم، فإن الله تعالى يقول: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ (1). وقال صلى الله عليه وآله:
" بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ".
قوله: " وخلاكم ذم ": لفظة تقال على سبيل المثل أي قد أعذرتم، وسقط عنكم الذم.
ثم قسم أيامه الثلاثة أقساما فقال: أنا بالأمس صاحبكم أي كنت أرجى وأخاف، وأنا اليوم عبرة لكم، أي عظة تعتبرون بها. وأنا غدا مفارقكم، أكون في دار أخرى غير داركم.
ثم ذكر أنه إن بقي ولم يمت من هذه الضربة فهو ولي دمه إن شاء عفا، وإن شاء اقتص، وإن لم يبق فالفناء الموعد الذي لا بد منه.
ثم عاد فقال: وإن أعف، والتقسيم ليس على قاعدة تقسيم المتكلمين. والمعنى منه مفهوم، وهو إما أن أسلم من هذه الضربة أو لا أسلم، فإن سلمت منها فأنا ولي دمي، إن شئت عفوت فلم أقتص، وإن شئت اقتصصت، ولا يعنى بالقصاص هاهنا القتل، بل ضربة بضربة، فإن سرت إلى النفس كانت السراية مهدرة كقطع اليد.