على تحصيل العلم وآواني في الحجرة التي كانت تخصه في المدرسة المعروفة بالمدرسة القزونية، فاشتغلت بالعلوم المعتادة في أيامنا بين المحصلين، ولكن بمقتضى سجيتي وما ارتكز في فطرتي وغرس في قلبي كان إلمامي بكتب التفسير والكلام والحديث والتاريخ أكثر، ونشاطي بها أتم، وولعي وشوقي إليها أشد وآكد، وكنت مكبا على المعجزة العلوية الخالدة أعني كتاب " نهج البلاغة " فجعلته سمير ليلي وأنيس نهاري، وصاحب وحدتي وكاشف همي وكربتي، وكلما كررت في مطاويه النظر، وأمعنت في مضامينه الفكر، زدت ايمانا على ايمان بأنه قبس من الأنوار العلوية، وغيض من فيض بحار العلوم المرتضوية، وندى من اقيانوس علوم الدين، ورشحة من معارف السيد الوصيين، وخليفة سيد المرسلين، ومهما سبرت كتب الاخبار، وتصفحت جوامع الأدب والآثار وثقفت التفاسير والتواريخ، عثرت له على مصادر وثيقة، ومدارك قوية قويمة قديمة، وكلما اطلعت على كتب المعرضين عن أمير المؤمنين، وتأملت كلمات المنحرفين عنه وأساطيرهم، رأيت البغضاء مجسمة، والشحناء ممثلة، والمحادة مجسدة، والشنان قد تجاوز النهاية، والمعاداة مسفرة، والمكابرة متراكمة، والمشاقة ملموسة، فعرض لي من البهر والدهشة والحيرة ما لا يوصف، إذ لم أجد - ولن يوجد أبدا - مثل كتاب نهج البلاغة حقيقة نيرة أوقدت من شجرة طيبة مباركة علوية - أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين، ويكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، ويوشك نورها أن يعبق العالم، ويفيق قاطنيه من الاغماء، ويخلصهم من الدواهي واللاواء - وهو مع هذا مورد النقاش والاستنكار،!! وكيف يمكن النقاش فيه وقد اكتنفته الشواهد الداخلية والخارجية، وحفت به المعاضدات اللفظية والمعنوية، ولفت به القرائن الحالية والمقالية، وجل ما فيه مما أجمع واتفق على روايته علماء السنة والامامية، وهل يمكن ستر الشمس بالكف، أو يتيسر إخماد نور الله بالنفث، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الفاسقون، وكيف
(٩)