ألا! وهي الحجاج في المذهب، والدعوة إلى الحق، وبث فضائل آل الله، ونشر روحيات العترة الطاهرة في المجتمع، بصورة خلابة، وأسلوب بديع، يمازج الأرواح، ويخالط الأدمغة، فيبلغ هتافه القاصي والداني، وتلوكه أشداق الموالي والمناوئ مهما علت في الكون عقيرته، ودوخت الأرجاء شهرته، وشاع وذاع وطار صيته في الأقطار، وقرطت به الأذان.
مهما صار أحدوة تحدو بها الحداة، وأغاني تغني بها الجواري في أندية الملوك والخلفاء والأمراء، وتناغي بها الأمهات الرضع في المهود، ويرقصنها بها بعد الفطام في الحجور، ويلقنها الآباء أولادهم على حين نعومة الأظفار، فينمو ويشب وفي صفحة قلبه أسطر نورية من الولاء المحض بسبب تلك الأهازيج، وهذه الناحية - الفارغة اليوم - لا تسدها خطابة أي مفوه لسن، ولا تلحقه دعاية أي متكلم، كما يقصر دون إدراكها السيف والقلم.
وأنت تجد تأثير الشعر الرائق في نفسيتك فوق أي دعاية وتبليغ، فأي أحد يتلو ميمية الفرزدق فلا يكاد أن يطير شوقا إلى الممدوح وحبا له؟ أو ينشد هاشميات الكميت فلا يمتلئ حجاجا للحق؟ أو يترنم بعينية الحميري فلا يعلم أن الحق يدور على الممدوح بها؟ أو تلقى عليه تائية دعبل فلا يستاء لاضطهاد أهل الحق؟ أو تصك سمعه ميمية الأمير أبي فراس فلا تقف شعرات جلدته؟ ثم لا يجد كل عضو منه يخاطب القوم بقوله:
يا باعة الخمر كفوا عن مفاخركم * لعصبة بيعهم يوم الهياج دم وكم وكم لهذه من أشباه ونظائر في شعراء أكابر الشيعة (1)....
وبهذه الغاية المهمة كان الشعر في القرون الأولى مدحا وهجاءا ورثاءا