يقتصروا على ضروب معينة من هندسة الحياة التي يؤرخونها، وأن يصوغوا التاريخ صياغة قد يظهر فيها الجمال الفني أحيانا حينما يتوسع الباحث في انطباعاته عن الموضوع، ولكنها صورة باهتة في أكثر الأحايين ليس فيها ما في دنيا الناس التي تصورهم من معاني الحياة وشؤونها المتدفقة بألوان من النشاط، والحركة، والعمل، وسوف تجد فيما يأتي أمثلة بمقدار ما يتسع له موضوعنا من الزمن الدقيق الذي ندرسه في هذه الفصول أعني الظرف الذي تلا وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقررت فيه المسألة الأساسية في تاريخ الإسلام على شكل لا يتغير، وهي نوع السلطة التي ينبغي أن تتولى أمور المسلمين.
(تقويم تاريخ صدر الإسلام:) كلنا نود أن يكون التاريخ الإسلامي في عصره الأول الزاهر طاهرا كل الطهر، بريئا مما يخالط الحياة الإنسانية من مضاعفات الشر ومزالق الهوى، فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود وإليه تسير، كما كان أستاذهم الأكبر الذي فنى الوجود المنبسط كله بين عينيه ساعة هبوط الرسالة السماوية عليه. فلم يكن يرى شيئا ولا يسمع صوتا سوى الصوت الإلهي المنبعث من كل صوب وحدب، وفي كل جهة من جهات الوجود، وناحية من نواحي الكون يعلن تقليده الشارة الكبرى.