وأما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيرا كان أو شرا، ولا لنجس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي الخالص، ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث ما يسقط ويبقى ما يليق بالتقدير والملاحظة، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الأخاذ تاريخ أجيالنا السابقة، فليس ذلك تاريخا لأولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوما ما، وكانوا بشرا من البشر تتنازعهم ضروب شتى من الشعور والاحساس، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر، بل هو ترجمة لأشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الآفاق العالية من الخيال.
فإذا كنت تريد أن تكون حرا في تفكيرك، ومؤرخا لدينا الناس لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب، فضع عواطفك جانبا أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملك لا ينازعك فيها أحد، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث، فإنه لم يعد ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك أن تكون أمينا ليأتي البحث مستوفيا لشروطه قائما على أسس صحيحة من التفكير والاستنتاج (1).
كثيرة جدا هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ وبين حريتهم فيما ينقدون، وقد اعتاد المؤرخون أو أكثر المؤرخين بتعبير أصح، أن