وإن كانت النفس سفلية متعلقة بالدنيا، منهمكة في الشهوات، حريصة على المخالفات مستعملة للمتخيلة في التخيلات الفاسدة وغير ذلك مما يوجب الظلمة وازدياد الحجب أو سوء مزاج الدماغ، فلا تتصل بالجواهر الروحانية بمجرد ذلك، فتفعل باختراعها بقوتها المتخيلة في مملكتها وعالمها الباطني صورا وأشخاصا جسمانية بعضها مطابقة لما يوجد في الخارج، وبعضها خرافات لا أصل لها في شئ من العوالم، بل هو من دعابات المتخيلة واضطراباتها التي لا تفتر عنها في أكثر الأحوال، ثم انتقلت منها وحاكتها بأمور أخرى في النوم، فبقيت مشغولة بمحاكاتها كما تبقى مشغولة بالحواس في اليقظة، و خصوصا إذا كانت ضعيفة منفعلة عن آثار القوى، وهي أضغاث الأحلام. ولمحاكاتها أسباب من أحوال البدن ومزاجه، فإن غلبت على مزاجه الصفراء حاكاها بالأشياء الصفر وإن كان فيه الحرارة حاكاها بالنار والحمام الحار، وإن غلبت البرودة حاكاها بالثلج والشتاء ونظائرهما، وإن غلبت السوداء حاكاها بالأشياء السود والأمور الهائلة.
قال بعض العلماء: وإنما حصلت صورة النار مثلا في التخيل عند غلبة الحرارة، لان الحرارة التي في موضع تتعدى إلى المجاور لها كما يتعدى نور الشمس إلى الأجسام، بمعنى أنه سيكون سببا لحدوثه إذ خلقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره والقوة المتخيلة منطبعة في الجسم الحار فيتأثر به تأثرا يليق بطبعها، لان كل شئ قابل يتأثر من شئ فإنما يتأثر منه بشئ يناسب جوهر هذا القابل وطبعه، فالمتخيلة ليست بجسم حتى تقبل نفس الحرارة فتقبل من الحرارة ما في طبعها القبول وهو صورة الحار فهذا هو السبب فيه.
ثم قال: والاتصال بالجواهر الروحانية كما يكون في المنام فكذلك قد يكون في اليقظة أيضا، كما أن الاختراعات الخيالية تكون في الحالتين، وذلك لان رفع الحجاب بين مرآة النفس وذلك العالم كما يكون في المنام فكذلك قد يكون بأسباب اخر، مثل صفاء النفس بسبب أصل الفطرة، ومثل انزعاج النفس وانزجارها عن هذا العالم بسبب ما يكدرها وينقص (1) عيشها الدنياوي من المؤلمات والمنفرات، فيتوجه