ويزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها؟ أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها ساهون؟! و ربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيذمر ويسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه جهلا بمحمود العاقبة، وقلة معرفة معرفة لعظيم الغناء والمنفعة فيها.
تأمل نزوله على الأرض وتدبر في ذلك، فإنه جعل ينحدر عليها من علو ليغشى ما غلظ وارتفع منها فيرويه، ولو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما علا المواضع المشرفة منها ولقل ما يزرع في الأرض، ألا ترى أن الذي يزرع سيحا أقل من ذلك؟ فالأمطار هي التي تطبق الأرض، وربما تزرع هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها فتغل الغلة الكثيرة، وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونة سياق الماء من موضع إلى موضع، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم، حتى يستأثر بالماء ذو العزة والقوة ويحرمه الضعفاء.
ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش ليغور في قعر الأرض فيرويها ولو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها، ثم كان يحطم الزرع القائمة إذا اندفق عليها، فصار ينزل نزولا رقيقا فينبت الحب والمزروع ويحيي الأرض والزرع القائم، وفي نزوله أيضا مصالح أخرى، فإنه يلين الأبدان، ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الداء المسمى " اليرقان " إلى أشباه هذا من المنافع.
فإن قال قائل: أوليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدة ما يقع منه، أو برد يكون فيه تحطم الغلات وبخورة يحدثها في الهواء فيتولد كثير من الأمراض في الأبدان، والآفات في الغلات؟ قيل: بلى، قد يكون ذلك الفرط لما فيه من صلاح الانسان وكفه عن ركوب المعاصي والتمادي فيها فيكون المنفعة فيها يصلح له من دينه أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله.
بيان: " يعتقبان " أي يأتي كل منهما عقيب صاحبه، و " خصر الهواء "