بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٥ - الصفحة ١٣٠
وأما قوله تعالى: " ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون " فلم يعن به الناقصي العقول، وإنما أراد تعالى الذين لم يعقلوا ولم يعلموا ما وجب عليهم علمه من معرفة خالقهم تعالى، والاعتراف بنبوة رسله عليهم السلام، والانقياد إلى طاعتهم، ووصفهم بأنهم لا يعقلون تشبيها، كما قال الله تعالى: " صم بكم عمي " (1) وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الأمور أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه بالجنون وفقد العقل. فأما الحديث الذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل فيه: إنه صلى الله عليه وآله لم يرد بالبله ذوي الغفلة والنقص والجنون وإنما أراد البله عن الشر والقبيح وسماهم بلها عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه، لا من حيث فقد العلم به، ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبله ظاهر. (2) ثم قال رحمه الله: إن سأل سائل عن قوله تعالى - حاكيا عن شعيب عليه السلام -: " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجينا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " (3) فقال: أليس هذا تصريحا منه بأن الله تعالى يجوز أن يشاء الكفر والقبيح؟
لان ملة قومه كانت كفرا وضلالا، وقد أخبر أنه لا يعود فيها إلا أن يشاء الله.
الجواب قيل له: في هذه الآية وجوه: أولها أن تكون الملة التي عناها الله تعالى إنما هي العبادات الشرعيات التي كانت قوم شعيب متمسكين بها وهي منسوخة عنهم ولم يعن بها ما يرجع إلى الاعتقادات في الله وصفاته. (4)

(١) البقرة: ١٨.
(٢) قال بعد ذلك: فان الأبله عن الشئ هو الذي لا يعرض له ولا يقصد إليه فإذا كان المتنزه عن الشر معرضا عنه هاجرا لفعله جاز أن يوصف بالبله للفائدة التي ذكرناها، ويشهد بصحة هذا التأويل قول الشاعر:
ولقد لهوت بطفلة ميالة * بلهاء تطلعني على اسرارها أراد بالبلهاء ما ذكرناه; إلى آخر كلامه. ومن شاء الاطلاع عليه فليراجع ج ١ ص ٣١ من أماليه.
(٣) الأعراف: ٨٩.
(4) قال بعد ذلك: مما لا يجوز أن تختلف العبادات فيه والشرعيات يجوز فيها اختلاف العبادة من حيث تبعت المصالح والالطاف والمعلوم من أحوال المكلفين، فكأنه قال: ان ملتكم لا نعود فيها مع علمنا بان الله قد نسخها وأزال حكمها الا أن يشاء الله أن يتعبدنا بمثلها فنعود إليها، وتلك الأفعال التي كانوا متمسكين بها مع نسخها عنهم ونهيهم عنها وان كانت ضلالا وكفرا فقد كان يجوز فيما هو مثلها أن يكون ايمانا وهدى، بل فيها أنفسها قد كان يجوز ذلك، وليس تجرى هذه الأفعال مجرى الجهل بالله تعالى الذي لا يجوز أن يكون إلا قبيحا، وقد طعن بعضهم على هذا الجواب فقال: كيف يجوز أن يتعبدهم الله تعالى بتلك الملة مع قوله " قد افترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد إذ نجينا الله منها "؟ فيقال له: لم ينف عودهم إليها على كل حال، وإنما نفى العود إليها مع كونها منسوخة منهيا عنها، والذي علقه بمشية الله تعالى من العود إليها هو بشرط أن يأمر بها ويتعبد بمثلها، والجواب مستقيم لا خلل فيه انتهى. يوجد ذلك ف ج 2 ص 64.
(١٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 125 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 ... » »»
الفهرست