أما أول ذلك. فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجته إلى ذلك، ولكنه عز وجل لم يخلق شيئا لحاجة، ولم يزل ثابتا لا في شئ، إلا أن الخلق يمسك بعضه بعضا، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه.
والله جل وتقدس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شئ، ولا يخرج منه ولا يؤده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك إلا الله عز وجل، ومن اطلعه عليه من رسله وأهل سره، والمستحفظين لأمره، وخزانه القائمين بشريعته، وإنما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنما يقول له: (كن) فيكون بمشيته وإرادته، وليس شئ من خلقه أقرب إليه من شئ، ولا شئ أبعد منه من شئ، أفهمت يا عمران؟
قال: نعم يا سيدي فهمت، وأشهد أن الله على ما وصفت ووحدت، وأن محمدا عبده المبعوث بالهدى ودين الحق، ثم خر ساجدا نحو القبلة وأسلم.
قال الحسن بن محمد النوفلي: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابي - وكان جدلا لم يقطعه عن حجته أحد قط - لم يدن من الرضا عليه السلام أحد، ولم يسألوه عن شئ، وأمسينا فنهض المأمون والرضا عليه السلام فدخلا وانصرف الناس.
ثم قال الرضا عليه السلام - بعد أن عاد إلى منزله -: يا غلام صر إلى عمران الصابي فأتني به!
فقلت: جعلت فداك! أنا أعرف موضعه هو عند بعض إخواننا من الشيعة.
قال: فلا بأس قربوا إليه دابة.
فصرت إلى عمران فأتيته به، فرحب به، ودعا بكسوة فخلعها عليه، ودعا بعشرة آلاف درهم فوصله به.
قلت: جعلت فداك! حكيت فعل جدك أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: هكذا يجب. ثم دعا عليه السلام بالعشاء فأجلسني عن يمينه، وأجلس عمران عن يساره، حتى إذا فرغنا قال لعمران: انصرف مصاحبا وبكر علينا نطعمك طعام المدينة.