الأطيب (صلى الله عليه وآله)، فإن فيه أسوة لمن تأسى وعزاء لمن تعزى، وأحب العباد إلى الله تعالى المتأسي بنبيه والمقتص لاثره، قضم الدنيا قضما ولم يعرها طرقا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا، عرضت عليه الدنيا فأبى ان يقبلها، وعلم أن الله سبحانه أبغض شيئا فأبغضه، وحقر شيئا فحقره، وصغر شيئا فصغره، ولو لم يكن فينا إلا حبنا ما أبغض الله (1) وتعظيمنا ما صغر الله (2)، لكفى به شقاقا لله، ومحاداة عن أمر الله، ولقد كان (صلى الله عليه وآله) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة لاحدى أزواجه غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأما ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشا، ولا يعتقدها قرارا، ولا يرجو فيها مقاما، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيبها عن البصر، وكذلك من أبغض شيئا، أبغض أن ينظر إليه وأن يذكر عنده، ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يدلك على مساوئ الدنيا وعيوبها، إذ جاع فيها مع خاصته، وزويت عنه زخارفها مع عظيم زلفته، فلينظر ناظر بعقله، أأكرم الله محمدا (صلى الله عليه وآله) بذلك أم أهانه!؟ فإن قال:
أهانه، كذب و [أتى بالإفك] (3) العظيم، وإن قال: أكرمه، فليعلم أن الله قد أهان غيره، حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس (4)، فتأسى متأس بنبيه، واقتص اثره، وولج مولجه، وإلا فلا يأمن الهلكة، فإن الله جعل محمدا (صلى الله عليه وآله) علما للساعة، ومبشرا بالجنة، ومنذرا بالعقوبة، خرج من الدنيا خميصا، وورد الآخرة سليما، لم يضع حجرا على حجر حتى مضى لسبيله، وأجاب داعي ربه " إلى آخره.