كانت عظيمة يقل بها صبري ويرق لها تجلدي فإن المصيبة بفراقك أجل وأعظم والبلية بموتك أكمل وأفخم، كما صبرت على هذه أصبر على تلك بطريق أولى، وفي بعض النسخ موضع ثغر بالثاء المثلثة والغين المعجمة وهو تصحيف، ولعل المراد على تقدير ثبوته أن لي بسنتك في فرقتك موضع ثغر أي موضع مخافة لهجوم الأعداء علي، ولي اسوة بها في فرقة صفيتك يعني حصل لي بذلك أيضا موضع ثغر ومخافة لهجومهم والأنسب بهذا المعنى أن يقرأ (ألا) بالتخفيف للتنبيه و «إن» بكسر الهمزة.
قوله (فلقد وسدتك في ملحودة قبرك) الوساد والوسادة المخدة وقد وسدته الشيء فتوسده جعلته تحت رأسه. واللحد الشق المائل في جانب القبر يقال: لحدت القبر فالقبر ملحود وألحدته فهو ملحد، وإضافة الملحودة إلى القبر بيانية وتأنيثها باعتبار القطعة أو البقعة وفيه إظهار للتفجع بمصيبته به (صلى الله عليه وآله) والتوجع بمقاساته ألم الفراق منه كما في قوله «وفاضت نفسك» أي خرجت روحك «بين نحري وصدري» فإن أعظم المصائب وأشد الآلام أن يخرج روح أحب الخلق إلى الرجل ورأسه في صدره، ويدفنه في قبره بيده.
قوله (بلى وفي كتاب الله لي أنعم القبول) أي أطيب القبول وأحسنه وهو كناية عن الرضاء بقضاء الله وبما أثبته في كتابه قال جل شأنه: (إنك ميت وإنهم ميتون) وقال (كل نفس ذائقة الموت).
فإن قلت: بلى ايجاب بعد النفي أو الاستفهام كما إذا قيل: لم يقم زيد أو ألم يقم فقلت: بلى، كان المعنى قد قام وليس هنا بعدهما؟ قلت هذا الكلام استئناف جواب عما يقال: أليس في كتاب لله ما ينعم البال ويطيب النفس بمثل تلك المصيبة؟ ثم تمسك بالله وفوض أمره إليه وأقر بملك الأشياء كلها له وجريان حكمه عليها بقوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون) وامتثالا لقوله عزوجل:
(وبشر اللذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ثم رجع إلى ما ورد عليه جديدا من مصيبة الزهراء وإظهار التوجع عليها فقال: قد استرجعت الوديعة واخذت الرهينة، كما هو شأن أصحاب المصائب المكاثرة حيث يذكرون بعضها في بعض وينتقلون من بعضها إلى بعض، وإطلاق الوديعة والرهينة على نفسها القدسية المطهرة من باب الاستعارة، ووجه الاستعارة الأولى أن المرأة عند الزوج كالوديعة كما يقال: النساء ودائع الكرام، أو أن النفس في هذا البدن تشبه الوديعة في رجوعها إلى مالكها وقتا ما، ووجوب حفظها من المهلكات. ووجه الثانية أن النفس رهينة بما كسبت ومعناه أن الكسب لازم لها لابد منه. فشبهها في لزومه لها وعدم انفكاكه منها بالرهن في يد المرتهن.