تحف العقول - ابن شعبة الحراني - الصفحة ٤٦٥
إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (1) ": تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علوا كبيرا.
لكن نقول: إن الله عز وجل خلق الخلق بقدرته، وملكهم استطاعة تعبدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد (2) فقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك لهم. ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها ولله الخيرة في الأمر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به وينهى عما يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه، لأنه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجة بالاعذار والانذار وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده، اصطفى محمدا صلى الله عليه وآله وبعثه برسالاته إلى خلقه، فقال من قال من كفار قومه حسدا واستكبارا:
" لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (3) " يعني بذلك أمية بن أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي (4)، فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول:

(١) سورة البقرة آية ٧٩.
(٢) في الاحتجاج [وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي].
(٣) سورة الزخرف آية ٣٠. وقال الطبرسي في تفسيره: " يعنون بالقريتين مكة والطائف وتقدير الآية على رجل عظيم من القريتين أي من إحدى القريتين فحذف المضاف ".
(٤) وكذا في الاحتجاج ولكن الظاهر أن المراد بالرجل العظيم هو الذي كان من إحدى القريتين كالوليد بن المغيرة من مكة وأبى مسعود الثقفي من الطائف كما في التفسير فليس أمية بن أبي الصلت وأبو مسعود الثقفي من القريتين لأنهما كانا من أهل الطائف فيكون كلاهما مثالا للرجل العظيم الذي كان من إحدى القريتين أي الطائف لا من القريتين يعنى مكة والطائف. فعلى أي نحو كان فالرجلان كانا عظيمي القدر عند قومهما وذوي الأموال الجسيمة فيهما فزعموا أن من كان كذلك أولى بالنبوة من غيره. وكان الوليد بن المغيرة عم أبى جهل كان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب يتحاكمون إليه في الأمور وينشدونه الاشعار فما اختاره من الشعر كان مختارا وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها وملك القنطار أي جلد ثور مملو ذهبا. كان الوليد أحد المستهزئين الخمس الذين كفى الله شرهم وهو الذي جاء قريش عنده فقالوا له: يا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمدا سحر أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمد أنشدني شعرك؟ فقال: ما هو بشعر ولكنه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله، فقال: أتل، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. فلما سمع الرحمن استهزأ منه وقال:
تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن، قال: لا ولكني ادعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم، ثم افتتح حم السجدة فلما بلغ إلى قوله: " فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " وسمعه اقشعر جلده وقامت كل شعرة في بدنه وقام ومشى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش، فقيل: صبا عبد شمس إلى دين محمد فاغتمت قريش وغدا عليه أبو جهل فقال: فضحتنا يا عم، قال: يا ابن أخ ما ذاك وانى على دين قومي ولكن سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود، قال: أفشعر هو؟ قال: ما هو بشعر. قال؟ فخطب؟ قال:
لا، ان الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور لا يشبه بعضه بعضا له طلاوة، قال: فكهانة هو؟ قال:
لا، قال: فما هو؟ قال: دعني أفكر فيه، فلما كان من الغد، قالوا: يا عبد شمس ما تقول؟ قال:
قولوا: هو سحر فإنه أخذ بقلوب الناس فأنزل الله تعالى: " ذرني ومن خلقت وحيدا - إلى قوله -: عليها تسعة عشر ". وجاء يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اقرأ على، فقال: " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون "، فقال: أعد؟
فأعاد، فقال: والله له الحلاوة والطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق وما هذا بقول بشر.
وأما أمية بن أبي الصلت الثقفي كان من أهل الطائف وكان من أكبر شعراء الجاهلية وأغلب شعره متعلق بالآخرة وكان ينظر في الكتب المتقدمة ويقرؤها وحرم الخمر وشك في الأوثان ورغب عن عبادتها والتمس الدين وأخبر أن نبيا يخرج. قد أظل زمانه وكان يؤمل أن يكون ذلك النبي فلما بعث النبي وبلغ خبره كفر به حسدا وقال: كنت أرجو أن أكونه. كان أبوه عبيد الله بن ربيعة المكنى بابى الصلت وأمه رقية بنت عبد الشمس. مات في الطائف ومما قال في مرض موته:
كل عيش وإن تطاول دهرا * منتهى أمره إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي * في رؤوس الجبال أرعى الوعولا وروى أنه استنشد رسول الله صلى الله عليه وآله أخته شعره من بعد موته فأنشدته:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا * ولا شئ أعلى منك جدا وأمجدا وهي قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها، ثم أنشدته قصيدته التي فيها:
وقف الناس للحساب جميعا * فشقي معذب وسعيد إلى غير ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: آمن شعره وكفر قلبه. وأنزل الله فيه " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا - إلى قوله -: وأنفسهم كانوا يظلمون ".
وأبو مسعود هو عروة بن مسعود الثقفي كان من أهل الطائف وأحد السادة الأربعة في الاسلام: " بشر بن هلال العبدي، عدى بن حاتم الطائي، سراقة بن مالك المدلجي، عروة بن مسعود الثقفي ".
كان أبو مسعود عاقلا لبيبا وهو الذي أرسلته قريش يوم الحديبية فعقد معه الصلح وهو كافر ثم أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله من الطائف. واستأذن النبي صلى الله عليه وآله في الرجوع إلى قومه، فقال: انى أخاف أن يقتلوك، فقال: ان وجدوني نائما ما أيقظوني، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله، فرجع إلى الطائف ودعا قومه إلى الاسلام ونصح لهم فعصوه واسمعوه الأذى حتى إذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذن وتشهد فرماه رجل بسهم فقتله ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله قتله قال: مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه إلى الله فقتلوه وهو جد أعلى لعلي بن الحسين عليهما السلام المقتول بكربلا من قبل أمه، كان أمه ليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي. وهو الذي روى عنه تعظيم الصحابة للنبي حين رجع من عند النبي إلى أصحابه يوم الحديبية، فقال: يا قوم لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله ان رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وآله، إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كانوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
(٤٦٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 460 461 462 463 464 465 466 467 468 469 470 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة المؤلف 1
2 ما روى عن النبي صلى الله عليه وآله 6
3 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام 6
4 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم أخرى له عليه السلام مختصرة 10
5 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم أخرى له عليه السلام 13
6 حكمه صلى الله عليه وآله وسلم وكلامه وموعظته 15
7 وصيته صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل 25
8 كلامه صلى الله عليه وآله وسلم في أمور شتى 27
9 ذكره صلى الله عليه وآله وسلم العلم والعقل والجهل 28
10 موعظته صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأمته 29
11 خطبته صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع 30
12 في قصارى كلماته صلى الله عليه وآله 35
13 ما روى عن أمير المؤمنين 61
14 خطبته عليه السلام في إخلاص التوحيد 61
15 كتابه عليه السلام إلى ابنه الحسن عليه السلام 68
16 وصيته عليه السلام لابنه الحسين عليه السلام 88
17 خطبته عليه السلام المعروفة بالوسيلة 92
18 آدابه عليه السلام لأصحابه وهي أربعمائة باب للدين والدنيا 100
19 عهده عليه السلام إلى الأشتر حين ولاه مصر 126
20 خطبته عليه السلام المعروفة بالديباج 149
21 كلامه عليه السلام في الترغيب والترهيب 154
22 موعظته عليه السلام ووصفه المقصرين 157
23 كلامه عليه السلام في وصف المتقين 159
24 خطبته عليه السلام التي يذكر فيها الايمان والكفر ودعائمه وشعبها 162
25 كلامه عليه السلام لكميل بن زياد 169
26 وصيته عليه السلام لكميل بن زياد مختصرة 171
27 وصيته عليه السلام لمحمد بن أبي بكر حين ولاه مصر 176
28 كلامه عليه السلام في الزهد وذم الدنيا وعاجلها 180
29 كلامه عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء 183
30 كلامه عليه السلام في وضع المال مواضعه 185
31 كلامه عليه السلام الدنيا للمتقين 186
32 ذكره عليه السلام الايمان والأرواح واختلافها 188
33 وصيته عليه السلام لزياد بن النضر حين أنفذه إلى صفين 191
34 وصفه عليه السلام لنقلة الحديث 193
35 كلامه عليه السلام في قواعد الدين ومعنى الاستغفار 196
36 وصيته عليه السلام إلى ابنه الحسن لما حضره الوفاة 197
37 تفضيله عليه السلام العلم 199
38 في قصارى كلماته عليه السلام 200
39 ما روى عن الامام السبط الزكي الحسن بن علي عليهما السلام 225
40 أجوبته عليه السلام عن مسائل سئل عنها 225
41 حكمه عليه السلام ومواعظه 227
42 جوابه عليه السلام عن مسائل سأل عنها ملك الروم 228
43 جوابه عليه السلام عن كتاب الحسن البصري في الاستطاعة 231
44 موعظته عليه السلام شيعته 232
45 خطبته عليه السلام حين قال له معاوية بعد الصلح: أذكر فضلنا 232
46 في قصارى كلماته عليه السلام 233
47 ما روى عن الامام السبط الشهيد المفدى عليه السلام 237
48 كلامه عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 237
49 موعظته عليه السلام شيعته ومواليه 239
50 كتابه عليه السلام إلى أهل الكوفة 240
51 جوابه عليه السلام عن مسائل سال عنها ملك الروم 242
52 كلامه عليه السلام في وجوه الجهاد 243
53 كلامه عليه السلام في توحيد الله تعالى 244
54 في قصاري كلماته عليه السلام 245
55 ما روى عن الامام علي بن الحسين عليهما السلام 249
56 موعظته عليه السلام أصحابه وشيعته في كل يوم جمعة 249
57 كلامه عليه السلام في الزهد والحكمة 252
58 رسالته عليه السلام في جوامع الحقوق 255
59 كلامه عليه السلام في الزهد 272
60 كتابه عليه السلام إلى محمد بن مسلم الزهري يعظه 274
61 في قصاري كلماته عليه السلام 278
62 ما روى عن الامام أبي جعفر الباقر عليه السلام 284
63 وصيته عليه السلام لجابر بن يزيد الجعفي 284
64 كلامه عليه السلام لجابر أيضا 286
65 كلامه عليه السلام في أحكام السيوف 288
66 موعظته عليه السلام شيعته ومواليه 291
67 في قصارى كلماته عليه السلام 292
68 ما روى عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام 301
69 وصيته عليه السلام لعبد الله بن جندب 301
70 وصيته عليه السلام لأبي جعفر محمد بن النعمان الأحول 307
71 رسالته عليه السلام إلى جماعة شيعته وأصحابه 313
72 كلامه عليه السلام سماه بعض الشيعة نثر الدرر 315
73 كلامه عليه السلام في وصف المحبة 325
74 كلامه عليه السلام في صفة الايمان 329
75 كلامه في صفة الاسلام 329
76 كلامه عليه السلام صفة الخروج من الايمان 330
77 جوابه عليه السلام في وجوه معائش العباد 331
78 كلامه عليه السلام في وجوه إخراج الأموال وإنفاقها 336
79 رسالته عليه السلام في الغنائم ووجوه الخمس 339
80 احتجاجه عليه السلام على الصوفية لما دخلوا عليه 348
81 كلامه عليه السلام في خلق الانسان وتركيبه 354
82 حكمه عليه السلام ودرر كلامه 356
83 في قصارى كلماته عليه السلام 357
84 ما روى عن أبى إبراهيم الإمام الكاظم عليه السلام 383
85 وصيته عليه السلام لهشام وصفته للعقل 383
86 حكمه عليه السلام ودرر كلامه 403
87 كلامه عليه السلام مع الرشيد 404
88 في قصارى كلماته عليه السلام 408
89 ما روى عن الإمام على بن موسى الرضا عليهما السلام 415
90 جوابه عليه السلام للمأمون في جوامع الشريعة 415
91 كلامه عليه السلام في التوحيد 423
92 كلامه عليه السلام في الاصطفاء 425
93 وصفه عليه السلام الإمامة والإمام ومنزلته 436
94 في قصارى كلماته عليه السلام 442
95 ما روى عن الإمام الناصح الهادي محمد بن على عليهما السلام 451
96 جوابه عليه السلام في محرم قتل صيدا 451
97 جوابه عليه السلام عن مسألة ليحيى بن أكثم 454
98 في قصارى كلماته عليه السلام 455
99 ما روى عن الإمام أبى الحسن على بن محمد عليهما السلام 458
100 رسالته عليه السلام في الرد على أهل الجبر والتفويض 458
101 أجوبته عليه السلام ليحيى بن أكثم عن مسائله 476
102 في قصارى كلماته عليه السلام 481
103 ما روى عن الإمام أبى محمد الحسن بن على العسكري 484
104 كتابه عليه السلام إلى إسحاق بن إسماعيل النيسابوري 484
105 في قصارى كلماته عليه السلام 486
106 مناجاة الله عز وجل لموسى بن عمران عليه السلام 490
107 مناجاة الله عز وجل لعيسى ابن مريم عليهما السلام 496
108 مواعظ المسيح عليه السلام في الإنجيل وغيره 501
109 وصية المفضل بن عمر لجماعة الشيعة 513