ثم إن هذا الجمع جمع بين سيرة قطعية للخليفة عمر بن الخطاب في عمله بالرأي، ومرويات قطعية ثابتة عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النهي عن العمل بالرأي والاجتهاد، ومن البديهي أن سيرة الخليفة عمر وغيره لا يمكنها أن تعارض سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) قولا وعملا وتقريرا، فلا بد من طرحها، والبحث عن المخرج والمبرر العلمي المعقول الذي يكمن وراء هذه المقولة وأمثالها، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن استبعاد بعض النفوس تخطئة الخليفة الثاني أو غيره من الصحابة، والنبو به عن تجاوز ما يرويه عن النبي، هو ما لا نرتضيه ولا نجعله مقياسا لتجاوز الحقائق، لكونه شخصا غير معصوم يخطأ ويصيب.
فنحن لو أردنا أن نقف على الحقيقة لزمنا معرفة السيرة العامة للخليفة أو غيره، وهل أنه من نهج الاجتهاد بالرأي أو التعبد المحض؟ وحيث ثبت عند المسلمين جميعا أنه من رواد الاجتهاد والرأي فلا سبيل بعد ذلك إلا طرح الرواية القائلة بعدم عمله بالرأي، حتى لو افترضنا جدلا صحتها سندا ودلالة، وذلك لمنافاتها للسيرة القطعية العامة التي علمناها منه في عمله بالاجتهاد والرأي، ولإيماننا بتحكم الأهواء والميول في نقل مثل هذه القضايا! ولكون الفقه والتاريخ قد تأثرا بتلك الاجتهادات لا محالة.
قال الدكتور محمد رواس قلعه چي في موسوعة فقه عمر بن الخطاب:
" من المعروف عند الفقهاء أن للفقه بناءا متكاملا، يأخذ بعضه برقاب بعض، ولكي يكون الرأي الفقهي الصادر عن المجتهد مقبولا لا بد وأن يكون منسجما مع بنائه الفقهي، فإذا ما نبأ عنه أو شذ عد غير مقبول، وإن كان منسجما معه عد مقبولا وإن كان سنده ضعيفا، وإني إذا ما أتى القول عن عمر منسجما مع بناء فقهه أثبته له وإن كان ضعيفا، ويكون انسجامه مع البناء الفقهي بمثابة الشواهد للحديث الضعيف، يتقوى بها ويشتد أزره، مثلا، لو ورد عن عمر أنه كان يمضمض ويستنشق من كف واحدة، يشهد لصحة هذا القول عن عمر بناء عمر لنظريته في النجاسات، إذ أن الماء عنده لا ينجس نجاسة مادية ولا معنوية، وإذا كان الماء لا ينجس فما المانع أن يتمضمض ويستنشق من كف... وهكذا " (1).