ولقد حذرهم عليه السلام من الامساك بذيل المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، لأن الكون يسير بالنظام الجاري فيه إلى غايات صالحة، والكون ترتبط أجزاءه ارتباطا محكما، وأي انحراف أو تفريط فإن الميل والانحراف يكون إفسادا للنظام المرسوم. ويتبعه إفساد غاياته. الإنسان الذي هو أحد أجزاء الكون غير مستثنى من هذه الكلية الجارية، فإن جرى على ما تهديه إليه الفطرة فاز بالسعادة المقدرة له، وإن تعدى حدود فطرته وأفسد في الأرض، أخذه الله بالسنين وأنواع النكال والنقمة لعله يرجع إلى الصلاح والسداد. وإن أقاموا على ذلك الفساد لرسوخه في نفوسهم. أخذهم الله بعذاب الاستئصال، وطهر الأرض من قذارة فسادهم (17) فماذا قال الجبابرة والمترفون والمسرفون لصالح عليه السلام عندما دعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من نقمه. وعندما بين لهم أن الطريق الصحيح لن يكون في ذيل الذين يفسدون في الأرض؟ يقول تعالى: (قالوا إنما أنت من المسحرين * ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) (18) لقد واجهوا النصح بحشد من الاتهامات فاتهموه - بأنه ممن سحر مرة بعد مرة حتى غلب السحر على عقله (19) وضعوا على كل مرحلة من مراحل حياته علامة تقول إنه مسحور. صادروا الحكمة والبلاغة والمضمون ودقوا وتد السحر. وعندما خاطبهم جمعوا له كل العلامات التي وضعوها على امتداد حياته وقالوا: (إنما أنت من المسحرين) ولم ينس طابور الانحراف أن يلقي بأثقال الآباء التي ألقي بها من قبل أمام نوح وهود عليهما السلام فقالوا لصالح عليه السلام: (ما أنت إلا بشر مثلنا) ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بآية تثبت صدقه في دعواه فقالوا: (فأت بآية إن كنت من الصادقين).
لقد دعاهم عليه السلام لكي يدخلوا في رحاب الأمن الحق الذي يربط أجزاء الكون بالعدل. ولكن العدل عند خيمة الانحراف، أن تتركهم وما يفعلون، وأن تتركهم وما يقولون، وأن لا تحول بينهم وبين ما يحبون! العدالة عندهم أن تتركهم حتى لو أدت أعمالهم إلى احتراق الأخضر واليابس في مشهد واحد.