وبالجملة فإن الدعوة الإلهية. لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني. من غير اضطرار وإلجاء. فالدار دار اختيار لا تتم فيها للإنسان سعادته الحقيقية إلا مسلوك مسلك الاختيار. واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته ويضره. وسلوك أي الطريقين رضى لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (139) فإنما هي هداية وإراءة للطريق. ليختار ما يختاره لنفسه. من التطرق والتمرد. من غير أن يضطر إلى شئ من الطريقين ويلجأ إلى سلوكه. بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث. قال تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى) (140) فليس للإنسان إلا مقتضى سعيه. فإن كان خيرا أراه الله ذلك. وإن كان شرا أمضاه له. قال تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (141) ولما كانت الدعوة الإلهية لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الإنساني من غير اضطرار وإلجاء. فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس. يكلمهم بلسانهم فيختاروا لأنفسهم السعادة بالطاعة، أو الشقاء بالمخالفة والمعصية. من غير أن يضطرهم الله إلى قبول الدعوة بآية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) (142) فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا. لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون. فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشري. فيمضي الله ذلك ويلبس عليهم كما لبسوا. قال تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (143).
فإنزال الملك رسولا. لا يترتب عليه من النفع والأثر أكثر مما يترتب على