كتاب الألفين - العلامة الحلي - الصفحة ١١٦
بالأحكام في كل واقعة وتفويض استخراج ذلك إلى الاجتهاد التابع للأمارات المختلفة والأفكار والأنظار المتباينة تكليف بما لا يطاق، وهو محال لا يقال إذا لزم من مجموع لا يلزم لزومه للأجزاء فلا يلزم استلزام عدم المعصوم المحال، لأنا نقول إذا كان ما عدا عدم المعصوم صادقا متحققا في نفس الأمر والصادق المتحقق لا يستلزم المحال، فتعين عدم المعصوم للاستلزام وهو المطلوب وأيضا، فقوله من بعد ما جاءتهم البينات يدل على طريق لظهور الأحكام والعلم بها وإلا ليس من المعصوم في كل عصر كما تقدم فثبت.
الحادي عشر: قوله تعالى: (وما الله يريد ظلما للعباد) والمأمور به مراد على ما ثبت في الأصول وكلام الأشاعرة قد أبطلناه في كتبنا الأصولية (1)

(1) الخلاف بين العدلية والأشاعرة في أفعال العباد معروف مشهور، قالت العدلية: إن كان الفعل من العبد مأمورا به منه عز شأنه فهو مراد له، وإن لم يكن مأمورا به فليس بمراد، وإنما هو من أفعال العباد أنفسهم، وقالت الأشاعرة إن كل ما هو واقع فهو مراد له سبحانه سواء كان طاعة أو معصية.
واستدلت العدلية على ما تقول بأمرين، الأول: إنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح، وكما لا يفعله لا يريده ولا يأمر به، فإن فعل القبيح كما كان قبيحا كانت إرادته والأمر به أيضا قبيحا.
الثاني: إنه تعالى أمر بالطاعة ونهي عن المعصية، والحكيم إنما يأمر بما يريد لا بما يكره، وينهي عما يكره لا عما يريد، فما أمر بالطاعة إلا لأنها مرادة له، وما نهى عن المعصية إلا لأنها مكروهة لديه، فلو كانت الطاعة غير مرادة له لما أمر بها ولو كانت المعصية غير مكروهة له لما نهى عنها، فثبت أن كل مأمور به مراد له تعالى وإن المعصية غير مرادة ولا مأمور بها للنهي عنها.
واستدلت الأشاعرة على ما تقول بأمور، الأول: إنه تعالى فاعل لكل موجود فتكون القبائح مستندة إليه بإرادته.
الثاني: لو أراد الله تعالى من الكافر الطاعة، والكافر أراد المعصية وكان الواقع ما أراده الكافر للزم إن يكون الله تعالى مغلوبا، إذ من يقع مراده من المريدين هو الغالب.
الثالث: إن كلما علم الله تعالى وقوعه وجب، وما علم عدمه امتنع، فإذا علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال منه إرادتها وإلا لكان مريدا لما يمتنع وجوده.
والجواب عن الأول بأن ذلك عين الدعوى، فإنه تعالى فاعل كل شئ بمعنى أنه موجود للممكنات، فالإنسان مخلوق له تعالى، ولكن ذلك لا يستلزم بأن تكون أفعاله أيضا مخلوقة له، لأننا نجد بالوجدان والضرورة، إن أفعال العبد مستندة لاختياره، وهو قادر على فعل الشئ وتركه معا في آن واحد ومن ثم يصح ثوابه على الطاعة وعقابه على المعصية.
وعن الثاني: بأنه تعالى إنما يريد الطاعة من العباد على سبيل الاختيار منهم دون الجاء وقهر ولا يتحقق ذلك إلا بإرادة المكلف نفسه، ولو أراد تعالى الطاعة من الكافر مطلقا سواء كانت عن اختيار أو إجبار لوقعت على كل حال، والفرق بين الإرادتين واضح.
وعن الثالث: بأن العلم تابع للمعلوم فلا يؤثر في إمكانه، فعلمه تعالى بأفعال عباده لا يكون علة فاعلية لوجودها بعد إن كان متعلقا بها وتابعا لوجودها.
فمن هاهنا يتضح بطلان ما زعمه الأشاعرة، وصحة ما يقوله العدلية، لأنه عز شأنه يستحيل عليه أن يأمر بطاعة غير المعصوم، لأن الأمر بطاعته قبيح لاستلزامه الظلم للعباد، فإن الإمام غير المعصوم قد يقع منه الظلم وقد يأمر به فيكف يأمر تعالى بالظلم أو يريده، فما يقع من القبايح من العباد، فليس بمراد له ولا مأمورا به.
(١١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 110 111 113 114 115 116 117 118 119 120 121 ... » »»
الفهرست