وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه (1). وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه. وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به (صلى الله عليه وآله) من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره. ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله، ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته. إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك لوزير وإنك لعلى خير " (2).
وقال ابن أبي الحديد - في بيان قوله (عليه السلام): " إني ولدت على الفطرة " -: " ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية؛ لأ نه ولد (عليه السلام) لثلاثين عاما مضت من عام الفيل، والنبي (صلى الله عليه وآله) أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل.
وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه (صلى الله عليه وآله) مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء، ولا يخاطبه أحد، وكان ذلك إرهاصا لرسالته (عليه السلام)، فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته (صلى الله عليه وآله)، فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة، وليس بمولود في جاهلية محضة، ففارقت حاله حال من يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل.