أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوف (1)، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقلت:
يا أباه مالك تنعى نفسك منذ الليلة؟ قال: يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل.
قالت أم كلثوم: فبكيت فقال لي: يا بنية لا تبكين فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلي النبي (صلى الله عليه وآله).
ثم إنه نعس وطوى ساعة، ثم استيقظ من نومه وقال: يا بنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني. ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
قالت أم كلثوم: فجعلت أرقب وقت الأذان، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء، ثم أيقظته، فأسبغ الوضوء وقام ولبس ثيابه وفتح بابه، ثم نزل إلى الدار وكان في الدار إوز قد أهدي إلى أخي الحسين (عليه السلام)، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن. فقال (عليه السلام): لا إله إلا الله صوارخ تتبعها نوائح، وفي غداة غد يظهر القضاء. فقلت له: يا أباه هكذا تتطير؟
فقال: يا بنية ما منا أهل البيت من يتطير ولا يتطير به، ولكن قول جرى على لساني، ثم قال: يا بنية بحقي عليك إلا ما أطلقتيه، فقد حبست ما ليس له لسان ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش، فأطعميه وأسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض (2).