ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) [البقرة: 74]، أي لا تنقص قسوتها عن قسوة الحجارة، بل إن لم تزد على قسوة الحجارة لم تكن دونها. وهذا المعنى أحسن وألطف وأدق من قول من جعل (أو) في هذا الموضع بمعنى بل، ومن قول من جعلها للشك بالنسبة إلى الرائي، وقول من جعلها بمعنى الواو فتأمله، وجزم بذلك ابن كثير.
اللباب: (أدنى أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف أو أدنى من قاب قوسين، فمعنى الآية: ثم دنا جبريل بعد استوائه في الأفق الاعلى من الأرض، فتدلى، فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فكان قاب قوسين أو أدنى بل أدنى.
تنبيه: هذا الذي قلناه من المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قال قوسين أو أدنى، إنما هو جبريل، نقله القاضي عن الجمهور. وقال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه هو الصحيح في التفسير، كما دل عليه كلام أكابر الصحابة. قال ابن القيم: لان جبريل هو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله: (ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى) [ا لنجم: 13، 14] هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة، قالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله عن هذه الآية، فقال: (ذاك جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين)، رواه مسلم، ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه:
الأول: أنه قال: (علمه شديد القوى) وهذا جبريل الذي وصفه بالقوة في سورة التكوير.
الثاني: أنه قال: (ذو مرة) [النجم: 6] أي حسن خلق، وهو الكريم في سورة التكوير.
الثالث: أنه قال: (فاستوى وهو بالأفق الاعلى) وهي ناحية السماء العليا وهذا استواء جبريل.
الرابع: أنه قال: (ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى)، فهذا دنو جبريل، وقد نزل إلى الأرض حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فوق سبع سماوات.
الخامس: أنه قال: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى). والذي عند السدرة قطعا هو جبريل، وبهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ذاك جبريل).
السادس: أن الضمير في قوله: (ولقد رآه)، وقوله: (دنا فتدلى)، وقوله: (فاستوى)، وقوله: (وهو بالأفق الاعلى) واحد، فلا يجوز أن يخالف بين المفسرين من غير دليل.