بالدجال، وكيف مدحت المدينة الشريفة بأنه لا يدخلها؟ والجواب أنه كونه شهادة ورحمة ليس المراد بوصف ذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه، وأنه سببه، فإذا تقرر ذلك واستحضر ما ورد في الأحاديث من أن طعن الجن (2) ظهر به مدح المدينة بأنه لا يدخلها إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة الشريفة، ومن اتفق دخوله إليها منهم لا يتمكن من آحاد أهلها بالطعن حماية من الله تعالى لهم منهم. فإن قيل:
طعن الجن لا يختص بوقوعه من كفارهم في مؤمني الانس، بل يقع من مؤمني الجن في كفار الانس، فإذا سلم منع الجن الكفار من المدينة لم يمنع من آمن منهم من دخولها فالجواب: إن دخول كفار الانس المدينة غير مباح، فإنه إذا لم يسكن المدينة إلا من أظهر الاسلام، جرت عليه أحكام المسلمين، وصار من لم يكن خالص الاسلام تبعا للخالص، فحصل الامن من دخول الجنة إليهم، فلذلك لا يدخلها الطاعون أصلا. قال الحافظ في بدل الطاعون في أخبار المدينة: وهذا الجواب أحسن من جواب القرطبي في المفهم حيث قال: (المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي في غيرها كطاعون عمواس (1) والجارف). وهو جواب صالح على تقدير التنزل أن لو وقع شئ من ذلك بها. وقال غيره: سبب الرحمة لم ينحصر في الطاعون وقد قال صلى الله عليه وسلم: (غير أن عافيتك أوسع لي)، فإن ذلك من خصائص المدينة الشريفة، ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة. وأجاب المنبجي بأجوبة منها أنها صغيرة، فلو وقع بها الطاعون أفنى أهلها، ومنها أنه عوضهم عن الطاعون بالحمى لان الطاعون يأتي بعد مدة والحمى تتكرر في كل مدة فتعادلا. قال الحافظ: (ويظهر لي جواب أخص من هذه الأجوبة بعد استحضار حديث أبي عسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام)، الحديث، وهو أن لا حكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا من زاد وغيره، وكانت المدينة وبيئة كما سبق، فناسب الحال الدعاء بتصحيح المدينة لتصح أجساد المقيمين لها ليقووا على جهاد الكفار، وخير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين، يحصل لمن أصاب كلا منهما عظيم الثواب، وهما الحمى والطاعون، فاختار الحمى بالمدينة لان أمرها أخف من أمر الطاعون لسرعة الموت به غالبا.
فلما أذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى ضعف الأجساد التي تحتاج إلى القوة في الجهاد، فدعا حينئذ بنقل الحمى إلى الجحفة فأجيب دعاؤه، وصارت المدينة من أصح بلاد الله، فإذا شاء الله موت أحد منهم، حصل له التي كانت من الطاعون بالقتل في