تعالى أن يغسل قلبه فيما حمل من الجنة في طست ملئ حكمة وإيمانا ليعرف قلبه طيب الجنة ويجد حلاوتها فيكون في الدنيا أزهد وعلى دعوة الخلق إلى الجنة أحرص، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان له أعداء يتقولون عليه فأراد الله تعالى أن ينفي عنه طبع البشرية من ضيق الصدر وسوء مقالات الأعداء، فغسل قلبه ليورث ذلك صدره سعة ويفارقه الضيق. كما قال تعالى: (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) [الحجر 97]. فغسل قلبه غير مرة فصار بحيث إذا ضرب أو شج رأسه أو كسرت رباعيته كما في يوم أحد يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
السادس عشر: جاء في رواية: أن المغسول البطن. فقيل: المراد بالبطن هنا ما بطن وهو القلب، واستظهره بعضهم لأنه جاء في رواية ذكر القلب ولم يذكر البطن. ويحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بينهما بأن يقال: أخبر صلى الله عليه وسلم مرة بغسل البطن ولم يتعرض لذكر القلب، وأخبر مرة بذكر القلب ولم يتعرض لذكر البطن، فيكون قد حصل فيهما معا مبالغة في تنظيف المحل.
قلت: تقدم التصريح بذلك في الأحاديث السابقة.
السابع عشر: قال السهيلي رحمه الله تعالى: فإن قيل كيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب، والإيمان عرض من الأعراض لا يوصف بها إلا محلها والذي يقوم به، ولا يجوز فيها الانتقال لأن الانتقال لأن الانتقال من صفة الأجسام لا من صفة الأعراض؟ قلنا: إنما عبر عما في الطست - بالحكمة والإيمان كما عبر عن اللبن الذي شربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب بالعلم، فكان تأويل ما أفرغ في قلبه صلى الله عليه وسلم إيمانا وحكمة ولعل الذي كان في الطست كان ثلجا وبردا كما ذكر في الحديث الأول، فعبر في المرة الثانية بما يؤول إليه وعبر عنه في المرة الأولى بصورته التي رآها، لأنه في المرة الأولى كان طفلا فلما رأى الثلج في طست الذهب اعتقده ثلجا حتى عرف تأويله بعد. وفي المرة الأخرى كان نبيا فلما رأى طست الذهب مملوءا ثلجا علم التأويل لحينه وأعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانا، فكان لفظه في الحديثين (1) على حسب اعتقاده في المقامين. انتهى.
وقال النووي والحافظ: المعنى جعل في الطست شئ يحصل به الزيادة في كمال الإيمان وكمال الحكمة، وهذا المملوء يحتمل أن يكون على الحقيقة، وتجسد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجئ يوم القيامة كأنها الظلة والموت في صورة كبش وكذلك وزن الأعمال، وغير ذلك من أحوال الغيب.