قال الحافظ: وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل.
على أنه قد ورد عن أبي نعيم في الدلائل بسند حسن عن عروة في هذه القصة أن خديجة أولا قد أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صدقتيني إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبنائهم. فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها ناموسي عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له قال ناموسي موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح الثامن عشر: قال السهيلي: قال ورقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لتكذبنه فلم يقل له شيئا، ثم قال ولتؤذينه. فلم يقل له شيئا. ثم قال: ولتخرجه فقال عليه الصلاة والسلام: أو مخرجي هم؟ ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس، وأيضا فإنه حرم الله تعالى وجوار بيته بلدة أبيه إسماعيل، فلذلك تحركت نفسه عند ذكر الخروج ما لم تتحرك قبل ذلك، فقال: أو مخرجي هم؟
والموضع الدال على تحرك النفس وتحرقها: إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، وذلك أن الواو ترد إلى الكلام المتقدم وتشعر المخاطب بأن الاستفهام على جهة الإنكار والتفجع لكلامه والتألم منه.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون انزعاجه كان من جهة خشية فواته ما أمله من إيمان قومه بالله وإنقاذهم به من وضر الشرك وأدناس الجاهلية ومن عذاب الآخرة ليتم له المراد من إرساله إليهم. ويحتمل أن يكون انزعج من الأمرين معا.
وسبقه إلى ذلك الشيخ تقي الدين السبكي فقال: كما حكاه عنه ولده في الطبقات:
الأحسن أن يقال: تحركت نفسه، لما في الإخراج من فوات ما ندب إليه من إيمانهم، وهدايتهم، فإن ذلك مع التكذيب والإيذاء مترقب، ومع الإخراج منقطع، وذلك هو الذي لا شئ عند الإنسان أعظم منه، لأنه امتثال أمر الله تعالى، وأما مفارقة الوطن فأمر جبلي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أجل وأعلى مقاما من الوقوف عنده في هذا الموطن العظيم.
التاسع عشر: قال الإسماعيلي رحمه الله تعالى: موه بعض الطاعنين على المحدثين فقال: كيف يجوز للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرتاب في نبوته حتى يرجع إلى ورقة ويشكو لخديجة ما يخشاه؟
والجواب: إن عادة الله سبحانه وتعالى جرت بأن الأمر الجليل إذا قضى الله تعالى