أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) [هود: 88] هذا تلطف معهم في العبارة، ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة. يقول لهم: " أرأيتم " أيها المكذبون (ان كنت على بينة من ربي) أي على أمر بين من الله تعالى أنه أرسلني إليكم (ورزقني منه رزقا حسنا) يعني النبوة والرسالة يعني وعمى عليكم معرفتها فأي حيلة لي بكم. وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء. وقوله (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) أي لست آمركم بالامر إلا وأنا أول فاعل له وإذا نهيتكم عن الشئ فأنا أول من يتركه وهذه في الصفة المحمودة العظيمة وضدها هي المردودة الذميمة كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم وخطباؤهم الجاهلون * قال الله تعالى (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) [البقرة: 44] وذكر عندها في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يؤتى بالرجل فيلقى النار فتندلق أقتاب بطنه - أي تخرج أمعاؤه من بطنه - فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى. كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه " * وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء فأما السادة من النجباء والألباء من العلماء، والذين يخشون ربهم بالغيب، فحالهم كما قال نبي الله شعيب (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت) أي ما أريد في جميع أمري إلا الاصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي (وما توفيقي) أي في جميع أحوالي (إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب) أي عليه أتوكل في سائر الأمور واليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب. ثم انتقل إلى نوع من الترهيب فقال (ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) [هود: 89] أي لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين. وقوله (وما قوم لوط منكم ببعيد) قيل معناه في الزمان أي ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم * وقيل معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان. وقيل في الصفات والافعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات. والجمع بين هذه الأقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال (واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) [هود: 90] أي أقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود فإنه من تاب إليه تاب عليه فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ولو من الموبقات العظام (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما نقول وإنا لنراك فينا ضعيفا) [هود: 91] روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنهم قالوا كان ضرير
(٢١٦)