للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي «لما ظلموا» ظرف للإهلاك أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغى والضلال من غير تأخير وقوله تعالى «وجاءتهم رسلهم» حال من ضمير ظلموا بإضمار قد وقوله تعالى «بالبينات» متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من رسلهم دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجال للتكذيب وقد جوز أن يكون قوله تعالى وجاءتهم عطفا على ظلموا فلا محل له من الإعراب عند سيبويه وعند غيره محله الجر لأنه معطوف على ما هو مجرور بإضافة الظرف إليه وليس الظلم منحصرا في التكذيب حتى يحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيب الذكرى لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى ورفع أبويه على العرش وخروا له الخ بل هو محمول على سائر أنواع الظلم والتكذيب مستفاد من قوله تعالى «وما كانوا ليؤمنوا» على أبلغ وجه وآكده فإن اللام لتأكيد النفي أي وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطاف لا تنجع فيهم والجملة على الأول عطف على ظلموا لأنه إخبار بإحداث التكذيب وهذا بالإصرار عليه وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه وقيل اعتراض بين الفعل وما يجرى مجرى مصدره التشبيهى أعنى قوله تعالى «كذلك» فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة «نجزي القوم المجرمين» أي كل طائفة مجرمة وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لاشتراكهم لأولئك المهلكين في الجرائم والجرائر التي هي تكذيب الرسول والإصرار عليه وتقرير لمضمون ما سبق من قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير وقرئ بالياء على الالتفات إلى الغيبة وقد جوز أن يكون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام في الإجرام ويأباه كل الإباء قوله عز وجل «ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم» فإنه صريح في أنه ابتداء تعرض لأمورهم وأن ما بين فيه إنما هو مبادى أحوالهم لاختبار كيفيات أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وخطابهم ببت القول بإهلاكهم لكمال إجرامهم والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض من بعد إهلاك أولئك القرون التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها استخلاف من يختبر «لننظر» أي لنعامل معاملة من ينظر «كيف تعملون» فهي استعارة تمثيلية وكيف منصوب على المصدرية بتعملون لا بننظر فإن ما فيه من معنى الاستفهام مانع من تقدم عامله عليه أي أي عمل أو على الحالية أي على أي حال تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن كقوله عز وعلا ليبلوكم أيكم أحسن عملا ففيه إشعار بأن المراد بالذات والمقصود الأصلي من الاستخلاف إنما هو ظهور الكيفيات الحسنة للأعمال الصالحة وأما الأعمال السيئة فبمعزل من أن تصدر عنهم لا سيما بعد ما سمعوا أخبار القرون المهلكة وشاهدوا آثار بعضها فضلا عن أن ينظم ظهورها في سلك العلة الغائبة
(١٢٧)