الدر المنثور - جلال الدين السيوطي - ج ١ - الصفحة ١٣١
لما أهبط إلى الأرض استوحش فيها لما رأى من سعتها ولم ير فيها أحدا غيره فقال يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري قال الله انى سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى فيسبحن فيها خلقي وسأبوؤك فيها بيتا أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي أنطقه بعظمتي وأحوزه بحرمتي واجعله أحق البيوت كلها وأولاها بذكرى وأضعه في البقعة المباركة التي اخترت لنفسي فإني اخترت مكانه يوم خلقت السماوات والأرض وقبل ذلك قد كان بغيتي فهو صفوتي من البيوت ولست أسكنه وليس ينبغي ان أسكن البيوت ولا ينبغي لها ان تحملني أجعل ذلك البيت لك ومن بعدك حرما وأمنا أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ومن أحله فقد أباح حرمتي من أمن أهله استوجب بذلك أماني ومن أخافهم فقد أخفرني في ذمتي ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ومن تهاون به صغر عندي ولكل ملك حيازة وبطن مكة حوزتي التي اخترت لنفسي دون خلقي فانا الله ذو بكة أهلها خفرتي وجيران بيتي وعمارها وزوارها وفدى وأضيافي في كنفي وضماني وذمتي وجواري أجعله أول بيت وضع للناس وأعمره باهل السماء وأهل الأرض يأتونه أفواجا شعثا غبرا على كل ضامر يأتين من كل فج عميق يعجون بالتكبير عجيجا ويرجون بالتلبية رجيجا فمن اعتمزه لا يريد غيري فقد زارني وضافني ووفد إلى ونزل بي فحق لي ان أتحفه بكرامتي وحق الكريم ان يكرم وفده وأضيافه وزواره وان يسعف كل واحد منهم بحاجته تعمره يا آدم ما كنت حيا ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن ونبيا بعد نبي حتى ينتهى ذلك نبي من ولدك يقال له محمد وهو خاتم النبيين فاجعله من عماره وسكانه وحماته وولاته وحجابه وسقاته يكون أميني عليه ما كان حيا فإذا انقلب إلى وجدني قد ادخرت له من أجره ونصيبه ما يتمكن به من القربة إلى والوسيلة عندي وأفضل المنازل في دار المقامة واجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه ومكرمة لنبي من ولدك يكون قبيل هذا النبي وهو أبوه يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضى على يديه عمارته وأنيط له سقايته وأريه حله وحرمه ومواقفه وأعلمه مشاعره ومناسكه واجعله أمة واحدة قانتا بأمري داعيا إلى سبيلي وأجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فيفي ويعدني فينجز أستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدمه وخزنته وحجابه حتى يبتدعوا ويغيروا ويبدلوا فإذا فعلوا ذلك فانا أقدر القادرين على أن أستبدل من أشاء بمن أشاء وأجعل إبراهيم امام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الإنس والجن يطؤن فيها آثاره ويتبعون فيها سنته ويقتدون فيها بهديه فمن فعل ذلك منهم أوفى بنذره واستكمل نسكه وأصاب بغيته ومن لم يفعل ذلك منهم ضيع نسكه وأخطأ بغيته ولم يوف بنذره فمن سأل عنى يومئذ في تلك المواطن أين أنا فانا مع الشعث الغبر الموبقين الموفين بنذرهم المستكملين مناسكهم المتبتلين إلى ربهم الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون وأخرجه الجندي عن عكرمة ووهب بن منبه رفعاه إلى ابن عباس بمكة سواء * وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الايمان عن أنس بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان موضع البيت في زمن آدم عليه السلام شبرا أو أكثر علما فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم ثم حج فاستقبلته الملائكة قالوا يا آدم من أين جئت قال حججت البيت فقالوا قد حجته الملائكة قبلك بألفي عام * وأخرج البيهقي عن عطاء قال أهبط آدم بالهند فقال يا رب ما لي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة فقال له لخطيئتك يا آدم فانطلق فابن لي بيتا فتطوف به كما رأيتهم يتطوفون فانطلق حتى أتى مكة فبنى البيت فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهارا وعمارة وما بين خطأ مفاوز فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة * وأخرج البيهقي عن وهب بن منبه قال لما تاب الله على آدم وأمره ان يسير إلى مكة فطوى له الأرض حتى انتهى إلى مكة فلقيته الملائكة بالأبطح فرحبت به وقالت له يا آدم انا لننظرك بر حجك اما انا قد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام وأمر الله جبريل فعلمه المناسك والمشاعر كلها وانطلق به حتى أوقفه في عرفات والمزدلفة وبمنى وعلى الجمار وأنزل عليه الصلاة والزكاة والصوم والاغتسال من الجنابة قال وكان البيت على
(١٣١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 126 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 ... » »»
الفهرست