وقد طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فمتى يهتدون، أو من يهديهم من بعد الله إذا أضلهم وأصمهم وأعمى أبصارهم " ومن يضلل (1) الله فما له من هاد "! [الزمر: 23] وكان فعل الله ذلك عدلا فيمن أضله وخذله، إذ لم يمنعه حقا وجب له فتزول صفة العدل، وإنما منعهم ما كان له أن يتفضل به عليهم لا ما وجب لهم.
فإن قالوا: إن معنى الختم والطبع والغشاوة التسمية والحكم والاخبار بأنهم لا يؤمنون، لا الفعل. قلنا: هذا فاسد، لان حقيقة الختم والطبع إنما هو فعل ما يصير به القلب مطبوعا مختوما، لا يجوز أن تكون حقيقته التسمية والحكم، ألا ترى أنه إذا قيل: فلان طبع الكتاب وختمه، كان حقيقة أنه فعل ما صار به الكتاب مطبوعا ومختوما، لا التسمية والحكم. هذا ما لا خلاف فيه بين أهل اللغة، ولأن الأمة مجمعة على أن الله تعالى قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم، كما قال تعالى: " بل طبع الله عليها بكفرهم " [النساء: 155]. وأجمعت الأمة على أن الطبع والختم على قلوبهم من جهة النبي عليه السلام والملائكة والمؤمنين ممتنع، فلو كان الختم والطبع هو التسمية والحكم لما امتنع من ذلك الأنبياء والمؤمنون، لأنهم كلهم يسمون الكفار بأنهم مطبوع على قلوبهم، وأنهم مختوم عليها وأنهم في ضلال لا يؤمنون، ويحكمون عليهم بذلك. فثبت أن الختم والطبع هو معنى غير التسمية والحكم، وإنما هو معنى يخلقه الله في القلب يمنع من الايمان به، دليله قوله تعالى:
" كذلك نسلكه في قلوب المجرمين (2). لا يؤمنون به " [الحجر: 12]. وقال: " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه (2) " [الانعام: 25]. أي لئلا يفقهوه، وما كان مثله.
الرابعة - قوله: (على قلوبهم) فيه دليل على فضل القلب على جميع الجوارح. والقلب للانسان وغيره. وخالص كل شئ وأشرفه قلبه، فالقلب موضع الفكر. وهو في الأصل مصدر قلبت الشئ أقلبه قلبا إذا رددته على بداءته. وقلبت الاناء: رددته على وجهه. ثم نقل هذا اللفظ فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الحيوان، لسرعة الخواطر إليه، ولترددها عليه، كما قيل:
ما سمي القلب إلا من تقلبه * فاحذر على القلب من قلب وتحويل