وقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " استفهام للتعجيب والوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب وهو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، ومتلوث بقذاراتها، ولذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، وليس للبشر شئ من ذلك.
ومن هنا يظهر معنى قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق " وأن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الأسواق لاكتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، وليست إلا من شؤون الملائكة ولذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: " لو شاء الله لأنزل ملائكة " المؤمنون: 24 أو ما في معناه.
ومن هنا يظهر أيضا أن قولهم: " لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية، فإن تنزلنا وسلمنا رسالته وهو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الانذار وتبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك.
وكذا قولهم: " أو يلقى إليه كنز " تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك واستقل بالرسالة وهو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية ولا يكدح في الأسواق في اكتساب ما يعيش به، ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة.
وكذا قولهم: " أو تكون له جنة يأكل منها " تنزل عما قبله في الاقتراح، والمعنى: وإن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها ولا يحتج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه.
قوله تعالى: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر ووصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم والاجتراء على الله ورسوله.