والاوفق لمقام المخاصمة والدفاع بإبانة الحق والتعليل بالمغفرة والرحمة أن يكون قوله: " إنه كان غفورا رحيما " تعليلا لانزال الكتاب وقد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا وهذه هي النبوة، ويكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات والأرض للايماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة والرحمة الإلهيتين لحالهم وهو طلبهم بفطرتهم وجبلتهم للسعادة والعاقبة الحسنى التي ليست حقيقتها إلا السعادة الانسانية بشمول المغفرة والرحمة وإن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا وزينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، وبطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الأولين.
وتقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات والأرض وهو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة وطلبا وانتزاعا للعاقبة الحسنى وحقيقتها فوز الدنيا والآخرة، وكان سبحانه غفورا رحيما ومقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم وبلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة.
وهذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله ولا من قبيل الأساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم وتستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة والرحمة وإن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله ولو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة ولم يدع إلى محض الحق ولاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم ونفعكم وهو الذي يجلب إليكم المغفرة والرحمة، وتارة إلى ما هو شر لكم وضار وهو الذي يثير عليكم السخط الإلهي ويستوجب لكم العقوبة.
قوله تعالى: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها " هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه " الخ.
وتعبيرهم عنه ص بقولهم: " هذا الرسول " مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم والاستهزاء.