تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٥ - الصفحة ١٣٢
وقوله: " والله سريع الحساب " إنما هو لاحاطة علمه بالقليل والكثير والحقير والخطير والدقيق والجليل والمتقدم والمتأخر على حد سواء.
واعلم أن الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل وخاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الانسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة ولا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع ويراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه والفوز بالسعادة التي يقدرها له، وإن كان ممن ينكره وينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر والطبيعة والمادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بما وراءها.
فهؤلاء يرون المؤثر الذي بيده سعادة حياتهم غيره تعالى ولا مؤثر غيره ويرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم وليست إلا سرابا لا حقيقة له ولا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الأعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عندها شيئا وعاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، وعند ذلك يوفيهم الله حسابهم والله سريع الحساب.
قوله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " تشبيه ثان لاعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، وقد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " البقرة: 257، وقوله: " كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122، وقوله: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15.
وقوله: " أو كظلمات في بحر لجي " معطوف على " سراب " في الآية السابقة، والبحر اللجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر وهي تردد أمواجه، والمعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي.
وقوله " يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " صفة البحر جئ بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفته أنه يغشاه ويحيط به موج كائن من فوقه موج آخر
(١٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 ... » »»
الفهرست