فهذا المزيد الذي هو وراء جزاء الأعمال أمر أعلى وأعظم من أن تتعلق به مشية الانسان أو يوصل إليه سعيه، وهذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين ويبشرهم به فأجد التدبر فيه.
وقوله: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: " يهدي الله لنوره من يشاء " على ما مر بيانه.
ومحصله أنهم عملوا صالحا وكان لهم من الاجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: " وتوفى كل نفس ما عملت " النحل: 111، وما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى وأرفع من أن تتعلق به مشيتهم وهذه أيضا موهبة ورزق بغير حساب، والرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء.
غير أنه تعالى وعدهم الرزق وأقسم على إنجازه في قوله: " فورب السماء والأرض إنه لحق " الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لاصله وهو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم وأما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية، وللكلام تتمه ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل.
قوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء " إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء ولا حقيقة له، والقيع والقاع هو المستوى من الأرض ومفرداهما القيعة والقاعة كالتينة والتمرة، والظمآن هو العطشان.
لما ذكر سبحانه المؤمنين ووصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة ولا بيع، وأن الله الذي هو نور السماوات والأرض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، وتارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها وهي حاجزة عن النور، وهذه الآية هي التي تتضمن الوصف الأول.
فقوله: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " شبه أعمالهم - وهي التي يأتون بها من قرابين وإذكار وغيرهما من