وفي هذه الآيات نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة وأعمالها وأنواع آثارها وحركاتها وسكناتها منسوبة إلى التقدير والهداية الإلهية فإلى تقديره تعالى تنتهى خصوصيات أعمال الأشياء وآثارها كالانسان يخطو ويمشى في انتقاله المكاني والحوت يسبح والطير يطير بجناحيه قال تعالى: (فمنهم من يمشى على بطنه ومنهم من يمشى على رجلين ومنهم من يمشى على أربع يخلق الله ما يشاء) (النور: 45) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيات أعمال الأشياء وحدودها وأقدارها تنتهى إليه تعالى، وكذلك الغايات التي تقصدها الأشياء على اختلافها، وتشتتها وتفننها إنما تتعين لها وتروم نحوها بالهداية الإلهية التي تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره، وينتهى ذلك إلى تقدير العزيز العليم.
فالاشياء في جواهرها وذواتها تستند إلى الخلقة الإلهية وحدود وجودها وتحولاتها وغاياتها وأهدافها في مسير وجودها وحياتها كل ذلك ينتهى إلى التقدير المنتهى إلى خصوصيات الخلقة الإلهية وهناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن إجزاء الكون متصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها نظام واحد لا مدبر له إلا الله سبحانه، وهو الذي ربما سمى ببرهان اتصال التدبير.
فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغي للباحث المتدبر أن لا يغفل عنها وهى ثلاث:
إحداها: أن من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه وشناعته كأنواع الظلم والفجور التي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس والكبرياء والقرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن كل ظلم وسوء في آيات كثيرة كقوله: (وما ربك بظلام للعبيد) (حم السجدة: 46) وقوله: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) (الأعراف: 28) وغير ذلك، وهذا ينافي عموم الخلقة لكل شئ فمن الواجب أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي والشرعي.
وينتج ذلك أن الافعال الانسانية مخلوقة للانسان وما وراءه من الأشياء ذواتها وآثارها مخلوقة لله سبحانه.
على أن كون الافعال الانسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الانسان، ويبطل بذلك نظام الأمر والنهي والطاعة والمعصية والثواب والعقاب وإرسال الرسل