إذ لم يحرم شئ منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها، فالطعام في الأصل كل ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت: فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى " وقال: " فإذا طعمتم فانتشروا " أي أكلتم.
وليت شعري ما ذا فهم من قولهم: " الطعام إذا أطلق كان المراد به الحبوب وأشباهها " فلم يلبث حتى أورد عليهم بمثل قوله: " يطعمه " وقوله: " طعمتم " من مشتقات الفعل؟
وإنما قالوا ما قالوا في لفظ الطعام، لا في الافعال المصوغة منه. وأورد بمثل: " وطعام البحر " والإضافة أجلى قرينة، فليس ينبت في البحر بر ولا شعير. وأورد بمثل: " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " ثم ذكر هو نفسه أن من المعلوم من دينهم أنهم لم يحرم عليهم البر أو الحب. وكان ينبغي عليه أن يراجع من القرآن موارد أطلق اللفظ فيها إطلاقا ثم يقول ما هو قائله كقوله: " فديه طعام مسكين " (البقرة: 184) وقوله:
" أو كفارة طعام مساكين " (المائدة: 95) وقوله: " ويطعمون الطعام " (الانسان:
8) وقوله " فلينظر الانسان إلى طعامه " (عبس: 24) ونحو ذلك.
ثم قال: وليس الحب مظنة للتحليل والتحريم، وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك لوصف حسي كموت الحيوان حتف أنفه، أو معنوى كالتقرب به إلى غير الله ولذلك قال تعالى: قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا " الآية (الانعام: 145) وكله يتعلق بالحيوان وهو نص في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص.
وكلامه هذا أعجب من سابقة: أما قوله: ليس الحب مظنة للتحليل والتحريم وإنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك، فيقال له: في أي زمان يعنى ذلك؟ أفي مثل هذه الأزمنة وقد استأنس الأذهان بالاسلام وعامة أحكامه منذ عدة قرون، أم في زمان النزول ولم يمض من عمر الدين إلا عدة سنين؟ وقد سألوا النبي صلى الله وآله وسلم عن أشياء هي أوضح من حكم الحبوب وأشباهها وأجلى، وقد حكى الله تعالى بعض ذلك كما في قوله: " يسألونك ما ذا ينفقون " (البقرة: 215) وقد روى عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجالا قالوا: كيف نتزوج نساءهم وهم على دين ونحن على دين فأنزل الله: " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " الحديث. وقد مر وسيجئ لهذا القول نظائر في تضاعيف الروايات كما نقلناه في حج التمتع وغير ذلك.