عن امتثال الأوامر الإلهية والعمل بالأحكام المشرعة في الدين إلا على الوجه الذي شرعت عليه، فلا يجوز الحج في غير أشهره، ولا الصيام في غير شهر رمضان وهكذا وكانت الجملة على هذا متمما لأول الآية، وكان المعنى: ان هذه الشهور أوقات مضروبة لأعمال شرعت فيها ولا يجوز التعدي بها عنها إلى غيرها كالحج في غير أشهره، والصوم في غير شهر رمضان وهكذا فكانت الآية مشتملة على بيان حكم واحد.
وعلى التقدير الأول الذي يؤيده النقل فنفى البر عن إتيان البيوت من ظهورها يدل على أن العمل المذكور لم يكن مما أمضاه الدين وإلا لم يكن معنى لنفى كونه برا فإنما كان ذلك عادة سيئة جاهلية فنفى الله تعالى كونه من البر، وأثبت ان البر هو التقوي، وكان الظاهر أن يقال: ولكن البر هو التقوي، وانما عدل إلى قوله: ولكن البر من اتقى، اشعارا بان الكمال انما هو في الاتصاف بالتقوى وهو المقصود دون المفهوم الخالي كما مر نظيره في قوله تعالى: ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن الآية.
والامر في قوله تعالى: وأتوا البيوت من أبوابها، ليس أمرا مولويا وإنما هو إرشاد إلى حسن اتيان البيوت من أبوابها لما فيه من الجري على العادة المألوفة المستحسنة الموافقة للغرض العقلائي في بناء البيوت ووضع الباب مدخلا ومخرجا فيها، فإن الكلام واقع موقع الردع عن عادة سيئة لا وجه لها إلا خرق العادة الجارية الموافقة للغرض العقلائي، فلا يدل على أزيد من الهداية إلى طريق الصواب من غير إيجاب، نعم الدخول من غير الباب بمقصد أنه من الدين بدعة محرمة.
قوله تعالى: واتقوا الله لعلكم تفلحون، قد عرفت في أول السورة ان التقوى من الصفات التي يجامع جميع مراتب الايمان ومقامات الكمال، ومن المعلوم ان جميع المقامات لا يستوجب الفلاح والسعادة كما يستوجبه المقامات الأخيرة التي تنفي عن صاحبها الشرك والضلال وإنما تهدي إلى الفلاح وتبشر بالسعادة، ولذلك قال تعالى:
واتقوا الله لعلكم تفلحون، فأتى بكلمة الترجي، ويمكن ان يكون المراد بالتقوى امتثال هذا الامر الخاص الموجود في الآية وترك ما ذمه من إتيان البيوت من ظهورها.