﴿ولكنه أخلد إلى الأرض﴾ (1)، ليس يريد به الأرض بعينها بل الدنيا وما فيها من الملاذ وهوى الأنفس.
قوله عليه السلام (قذفا بغيب بعيد)، أي قال إبليس هذا القول قذفا بغيب بعيد، والعرب تقول للشئ المتوهم على بعد هذا قذف بغيب بعيد والقذف في الأصل رمى الحجر وأشباهه، والغيب الامر الغائب، وهذه اللفظة من الألفاظ القرآنية، قال الله تعالى في كفار قريش (ويقذفون بالغيب من مكان بعيد) (2)، أي يقولون هذا سحر، أو هذا من تعليم أهل الكتاب، أو هذه كهانة، وغير ذلك مما كانوا يرمونه عليه الصلاة السلام به. وانتصب (قذفا) على المصدر الواقع موقع الحال، وكذلك (رجما) وقال الراوندي انتصبا لأنهما مفعول له، وليس بصحيح، لان المفعول له ما يكون عذرا وعلة لوقوع الفعل، وإبليس ما قال ذلك الكلام لأجل القذف والرجم، فلا يكون مفعولا له.
فان قلت كيف قال عليه السلام (قذفا من مكان بعيد، ورجما بظن غير مصيب)، وقد صح ما توهمه وأصاب في ظنه، فان اغواءه وتزيينه تم على الناس كلهم الا على المخلصين قلت اما أولا فقد روى (ورجما بظن مصيب) بحذف (غير)، ويؤكد هذه الرواية قوله تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا فريقا) (3) واما ثانيا على الرواية التي هي أشهر فنقول اما قذفا من مكان بعيد، فإنه قال ما قال على سبيل التوهم والحسبان لأمر مستبعد لا يعلم صحته ولا يظنها، وليس وقوع ما وقع من المعاصي وصحة ما توهمه بمخرج لكون قوله الأول (قذفا بغيب بعيد)، واما (رجما بظن غير مصيب)