والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما والقاء، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقي أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلي قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها.
والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين، فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها، ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات وتصح معارفه وتميزها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم.
وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية، فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ". انتهى.
2 - نشر العلم الذي حصله العالم:
وذلك أن العالم كثيرا ما ينبغ في بلد يضيق عن حمل نبوغه، لعدم توفر الكفاءات أو لقلة اهتمام أهل البلد بهذا الفن أو الاختصاص، فيرحل إلى مدينة تكون أوسع مجالا للآراء الخطيرة، أو أشد حاجة، فتعظم مكانته ويكثر الانتفاع بحكمته، ولولا الرحلة لما عظم شأنه ولما كثرت ثمرات نبوغه، وهذا الشيخ عز الدين بن عبد السلام مر عند خروجه من الشام بالكرك فتلقاه صاحباه وسأله الإقامة عنده، فقال له الشيخ:
" بلدك صغير عن علمي ". وتوجه إلى القاهرة.