مؤلف من أجزاء، وكل جزء منها يشتمل على سور، وكل سورة تشتمل على آيات، فكما أن الرجل يصعب عليه معرفة موضع آية من القرآن إلا إذا حفظه بحيث صارت الآي كلها نصب عينيه، فكذلك يصعب عليه الوقوف على حديث في كتابه إذا لم يقصد الحفظ له، ثم قال ابن حبان: " وإذا كان (المرء) عنده هذا الكتاب، وهو لا يحفظه، ولا يتدبر تقاسيمه وأنواعه، وأحب إخراج حديث منه، صعب عليه ذلك، فإذا رام حفظه أحاط علمه بالكل، حتى لا ينخرم منه حديث أصلا، وهذا هو الحيلة التي احتلنا ليحفظ الناس السنن.
وأنت إذا قرأت هذه الأنواع المذكورة ضمن أقسامها، وجدت أنه قد تفنن فيها ما شاء، وأغرب فيها ما شاء، فهي تصنيفات أصولية منطقية، لا يكاد يعرفها إلا من وضعها، ولا يخطر على ذهن الباحث عن حديث ما في أي نوع أثبته، وهو بعد أن سرد هذه الأنواع قال: " ولو أردنا أن نزيد على هذه الأنواع التي نوعناها للسنن أنواعا كثيرة لفعلنا، وإنما اقتصرنا على هذه الأنواع دون ما وراءها، وإن تهيأ ذلك لو تكلفناه " فمن ذاك الألمعي الذي يمكنه أن يلمح ما برق في ذهن ابن حبان من معنى جعله نوعا وأورد تحته حديثا؟ ومن الذي يستطيع أن يتكلف ما تكلفه؟ فلا هو أفلح في حمل الناس على حفظ السنن، ولا ترك كتابا سهل المتناول، قريب المأخذ، موطأ الأكناف.
ولم يخف الأئمة ما كانوا يعانونه في الكشف عن حديث فيه مع شدة احتياجهم إليه، فالسيوطي - وهو المتمرس في مطالعة الكتب وقراءتها والتأليف فيها والتصنيف - يتبرم من طريقة ترتيبه، ويذكر معاناته في البحث فيه، ويقول في " تدريب الراوي " 1 / 109: و " الكشف من كتابه عسر جدا "، ومن قبله الأمير علاء الدين الفارسي الذي رتبه يذكر سبب إحجام الناس عنه، فيقول: ولكنه لبديع صنعه، ومنيع وضعه، قد عز جانبه، فكثر مجانبه.
ولما كانت الحاجة ماسة إلى هذا الصحيح، فقد احتال الأئمة في تقريبه، وتوطئة سبله، وفتح أبوابه، فسلكوا في ذلك مسلكين اثنين: