مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه، فأمره - على علم منه بالمصير - إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف به مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور، فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة يعاقبه، فلما صار العبد إلى السوق، وحاول أخذ الحاجة التي بعثه بها، وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجة، فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك، فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته، وإن لم يعاقبه كذب نفسه، أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة، تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.
ثم قال العالم عليه السلام: - بعد كلام طويل -: فأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام وخطأ من دان به، فهو: قول القائل: (إن الله عز وجل فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم).
وهذا الكلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية عليهم السلام من عترة آل الرسول صلوات الله عليهم فإنهم قالوا: (لو فوض الله أمره إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثواب، ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب إذ كان الاهمال واقعا، وتنصرف هذه المقالة على معنيين: أما أن تكون العباد تظاهروا عليه فالزموه اختيارهم بآرائهم - ضرورة - كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن، أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض أمره ونهيه إليهم، وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان، ومثل ذلك: مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته، ويقف عند أمره ونهيه وادعى مالك العبد: أنه قاهر قادر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه، ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه، ولم يقف عند أمره