يابسة أفواههم لكي يعلم الناس أنهم صيامي.
يا ابن جندب أخير كله أمامك، وإن الشر كله أمامك. ولن ترى الخير و الشر إلا بعد الآخرة، لان الله جل وعز جعل الخير كله في الجنة والشر كله في النار، لأنهما الباقيان. والواجب على من وهب الله له الهدى وأكرمه بالايمان و الهمه رشده وركب فيه عقلا يتعرف به نعمه وآتاه علما وحكما يدبر به أمر دينه و دنياه (1) أن يوجب على نفسه أن يشكر الله ولا يكفره وأن يذكر الله ولا ينساه وأن يطيع الله ولا يعصيه، للقديم الذي تفرد له بحسن النظر، وللحديث الذي أنعم عليه بعد إذ أنشأه مخلوقا، وللجزيل الذي وعده، والفضل الذي لم يكلفه من طاعته فوق طاقته و ما يعجز عن القيام به وضمن له العون على تيسير ما حمله من ذلك وندبه إلى الاستعانة على قليل ما كلفه وهو معرض (2) عما أمره وعاجز عنه قد لبس ثوب الاستهانة فيما بينه وبين ربه، متقلدا لهواه، ماضيا في شهواته، مؤثرا لدنياه على آخرته وهو في ذلك يتمنى جنان الفردوس وما ينبغي لاحد أن يطمع أن ينزل بعمل الفجار منازل الأبرار. أما إنه لو وقعت الواقعة وقامت القيامة وجاءت الطامة ونصب الجبار الموازين لفصل القضاء وبرز الخلائق ليوم الحساب أيقنت عند ذلك لمن تكون الرفعة والكرامة وبمن تحل الحسرة والندامة: فاعمل اليوم في الدنيا بما ترجو به الفوز في الآخرة.
يا ابن جندب قال الله عز وجل في بعض ما أوحى: " إنما أقبل الصلاة ممن يتواضع لعظمتي ويكف نفسه عن الشهوات من أجلي ويقطع نهاره بذكري ولا يتعظم على خلقي ويطعم الجائع ويكسو العاري ويرحم المصاب ويؤوي الغريب (3) فذلك يشرق نوره مثل الشمس، أجعل له في الظلمة نورا وفي الجهالة حلما أكلاه بعزتي (4) و استحفظه ملائكتي، يدعوني فألبيه ويسألني فاعطيه، فمثل ذلك العبد عندي كمثل جنات الفردوس لا يسبق أثمارها ولا تتغير عن حالها ".