مرة، وفي كل مرة كان يعترض على آلهتهم. فأخرجوا من جعبتهم تهمة السفاهة ورموه بها، والسفاهة: خفة العقل التي تؤدي إلى الخطأ في الآراء. ولقد زادت عاد وقاحة على قوم نوح، فقوم نوح رموا نوحا بالضلال في الرأي، أما عاد فقد رموا هودا بالسفاهة. إنها الغطرسة التي تلقي بالتهم هكذا جزافا بلا تدبر ولا دليل، ثم اتهموه بالكذب في غير تحرج ولا حياء، أنظر إلى قولهم له: (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) ثم انظر إلى جوابه عليه السلام: (يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) (40) لقد رد عليهم ردود الأنبياء. رموه بالسفاهة، فلم يخرجه ذلك عن وقار النبوة، ولم ينس ما هو الواجب من أدب الدعوة الإلهية، وأخبرهم أنه ليس به سفاهة، ولكنه رسول من رب العالمين، لا شأن له بما أنه رسول من الله، إلا تبليغ رسالات الله، وإن كانوا يظنون أنه كاذبا. فهو ليس بغاش لهم فيما يريد أن يحملهم عليه، ولا خائن لما عنده من الحق، وكل ما يريده منهم هو التدين بدين التوحيد الذي يراه حقا، لأن هذا الدين هو الذي فيه نفعهم وخيرهم، وقد وصف عليه السلام نفسه بالأمين محاذاة لقولهم " وإنا لنظنك من الكاذبين) (41).
لم يقابل هود عليه السلام الشر بمثله. ولم يفارقه العطف واللطف والحنان واستعمال اللين والإخلاص في أقواله مع قومه. لقد رموه بالسفاهة، فقال: ليس بي سفاهة، ورموه بالكذب فقال: أنا لكم ناصح أمين، إنه منطق النبوة في الوعظ والإرشاد وهود عليه السلام كان واسع الصدر في دولة ترفع شعار (من أشد منا قوة؟) وكان ذا شعور قوي وزاهدا عابدا عفيفا أبيا غيورا صلب الإيمان في دولة إذا بطشت بطشت بطش الجبارين، وبعد أن نفى عن نفسه ما ألقوه عليه من تهم قال لهم: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) (42). لقد أراد أن يجذبهم من خيمة الأهواء والغطرسة إلى رحاب